تأخذ أزمة الكورونا اليوم الحيز الأكبر من طاقة الحكومة وأجهزتها المختلفة لمكافحة هذه الجائحة التي ضربت العالم منذ أواخر العام الماضي. وتتركز معظم إن لم يكن كل الجهود بشكل أساسي، على احتواء هذا الفيروس ومنع انتشاره بين اللبنانين والمقيمين، وذلك من خلال الاجراءات التي مازالت الدولة تأخذها بشكل من الواضح أنه متدرج ومدروس. فبعد حملات التوعية الأولية للمواطنين في بادئ الأمر، أُخِذَ القرار بإقفال المرافق والمؤسسات العامة والخاصة، والمدارس والجامعات، والطلب من المواطنين ملازمة منازلهم وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى. وقد رأينا في اليومين الماضيين رفع مستوى الإنذار خاصة مع أخذ عدد المصابين منحى متصاعد بشكل مقلق، ومع ما أظهره الإعلام على شاشاته من استلشاء للمواطنين في بعض المناطق لناحية الالتزام بالتوجيهات الصادرة عن مجلس الوزراء. وفي موازاة هذا النشاط، يُتابَع العمل الحثيث في القطاع الصحي والطبي للتعامل مع حالات الإصابة بالفيروس وخاصة المتقدمة منها والتي تشكل خطراً على حياة المريض، هذا بالإضافة إلى العمل على توفير المستلزمات الطبية، وتجهيز مستشفيات في مختلف المناطق اللبنانية لاستيعاب أي حالات إصابة بالفيروس بعيدة عن العاصمة حيث مستشفى رفيق الحريري الحكومي. هذا وتعمل الوزارات المختلفة مشكورة ً، على مواكبة الوضع ومحاولة الحد من تأثير هذا الفيروس على المجتمع بشكل عام إن كان لناحية التعليم، والإعلام، والإقتصاد، والأمن، والمالية، والصناعة، وغيرها.
وفي الأيام القليلة الماضية، بدأنا نلاحظ ديناميكية جديدة في المجتمع اللبناني ككل، ألا وهي عمليات التعقيم الواسعة التي قامت وتقوم بها البلديات وبعض الأحزاب كل في منطقته، بالإضافة إلى حملات التبرعات التي أطلقتها بعض الوسائل الإعلامية ومجموعة من الأحزاب بشكل عام. وبالرغم من أن ظاهرة جمع التبرعات هذه تعتبر من المؤشرات الإيجابية التي تدل على تكتل وتآزر المجتمع ككل، وإنما يجب أن تكون هذه المبادرات أيضاً منظمة وملتزمة بمعايير محددة أقله معايير الشفافية لناحية مصدر الأمول وكيفية التأكيد على استخدامها للهدف التي جُمعت لأجله. نقول هذا حتى لا تتحول هذه الجائحة إلى فرصة لاستغلال الكرماء محلياً ودولياً كما حصل في مناسبات مختلفة من تاريخ لبنان. وأذكر هنا خبرتي الشخصية خلال الحرب في ثمانينيات القرن الماضي حيث درُجَت عادة ملىء استمارات المساعدات في البيوت والمراكز – وقد ملأ أبي العشرات منها لشدة عوزنا – على حساب المهجرين الذين لم يرو شيئاً من هذه المساعدات، لا بل تُركوا لمصيرهم وتبخرت المساعدات. ونقول هذا لا انتقاداً، وإنما للتنبيه بأن الدولة والجهات الرقابية العامة والخاصة يجب أن تكون جزءاً من عملية تنظيم ومتابعة هذه المبادرات الخيرة حتى تحافظ على هدفها النبيل.
وحتى لا نحيد عن هدف هذه المقالة، فإن الذي نريد أن نضيء عليه اليوم، هو موضوع ذا أهمية مجتمعية كبرى، ولا يجب أن يُهمَل على حساب تركيز كل الجهود في محاربة الكورونا. فهذا الوباء سيذهب، ولكن آثاره الإجتماعية ستبقى، وهي إن لم يتم الإنتباه لها اليوم وبدء العمل على معالجتها، فإنها ممكن أن تؤدي إلى كارثة اجتماعية في لبنان. نتكلم هنا حول الأوضاع المعيشية لفقراء الحال وأصحاب المهن الحرة والموظفين والعمال الذي خسروا وسيخسرو مصدر عيشهم تباعاً. فلبنان كان أصلاً يعاني من ضائقة اجتماعية وانهيار اقتصادي قبل جائحة الكورونا، مما يعني أننا حُكماً في وضع لا نُحسَدُ عليه مقارنة بمعظم بلدان العالم التي كان اقتصادها بحالةٍ لا بأس بها أو جيدة قبل الجائحة. وقد تنافست العديد من المنظمات المحلية والعالمية في فترة ما قبل الإنهيار الإقتصادي والمالي في البلد على دق جرس الإنذار حول الازدياد المُضطَرِد لأعداد الفقراء في لبنان. وكانت آخر إحصاءات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP تشير إلى أن 27% من الشعب اللبناني يعاني من الفقر بمعدل مدخول شهري يساوي 270$*. هذه الشريحة من الشعب اللبناني والمنتشرة في كافة المناطق هي على حافة الإنفجار، إن لم تكن قد انفجرت أصلاً ولكن إنفجارها مكتوم آنياً بسبب الكورونا. ويجب على الدولة أن لا تستهين بالمؤشرات الصادرة عن حصول هذا الإنفجار حتى ولو كانت ضعيفة، لأنها ستأخذ زخماً خطيراً جداً بعد خروجنا من أزمة الفيروس.
ومن هذا المنطلق، ولتدارك حصول أزمة إجتماعية كبيرة ممكن أن تُتَرجم على هيئة مشاكل بين أفراد المجتمع حول توزيع الرزق القليل، أو بظهور آفات اجتماعية كالزواج المبكر والتسرب المدرسي والتشرد، أو بارتفاع نسبة الجريمة من سرقات وغيرها، يجب البدء بالعمل الآن وبشكل استباقي لاحتواء هذا الإنفجار وما يمكن أن ينتج عنه. ولا يجب على محور العمل الاجتماعي المعيشي هذا أن يُضعِف زخم الدولة وكافة الأطراف في مواجهة فيروس الكورونا، وإنما يجب العمل عليه بشكل متوازي من خلال الجهات المختصة في الدولة. وعليه نورد خارطة طريق لاستحداث محور العمل المجتمعي المعيشي المتوازي هذا:
1- وضع خطة عملية: وضع خطة عملية مبنية على توصيف دقيق للتبعات المعيشية لكورونا، والخيارات المتوفرة لمعالجتها بشكل سريع وفعال، والخروج بإطار عمل موحد يتعاون من خلاله جميع الأطراف المعنية بمعالجة هذه المشكلة بما فيها مؤسسات الدولة والأحزاب والمجتمع. ومن المستحسن تقسم هذه الخطة إلى محورين: محور الموارد (دعم الدولة، تبرعات محلية وعالمية، …)، ومحور العمليات (شراء، تخزين، وتوزيع). وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطة يجب أن تكون واضحة المعالم ومحددة الأهداف لناحية الخطوات المطلوبة ومن المسؤول عن كل خطوة وما هي الموارد المطلوبة والمهل الزمنية لكل خطوة والتحديات التي يمكن مواجهتها. الأهم، ونظراً لضيق الوقت، فإنه ليس من الضرورة أن تأخذ هذه الخطة أسابيع عديدة لوضعها وهي على الأكثر يجب أن تأخذ أسبوعاً واحداً إذا ما تعاونت كافة الأطراف، وإذا ما وُجد فريق العمل الكافي.
2– تحديد الأطراف المعنية: أجمل ما في لبنان هي أن شعبه “أبو الهمم”، فإننا في المآزق لا نوفر جهداً لأخذ المبادرة ومحاولة المساعدة. ولكن هذه النعمة كثيراً ما تتحول إلى نقمة بسبب كثرة الطباخين واللاعبين والمنظرين، مما يُفرغ المبادرات الجدية من قيمتها. لذلك وحتى تكون هذه الخطة فعالة، يجب أولاً ان تكون تحت إشراف الدولة التي هي من الناحية القانونية، الجهة الرئيسية المسؤولة عن توفير الظروف المعيشية المناسبة للشعب. وتتعاون الدولة في هذا المجال مع الأطراف المعنية، كل حسب اختصاصه وقدراته. فيمكن إيلاء هذه المسؤولية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية أو إلى الهيئة العليا للإغاثة (والتي راكمت خبرة لا بأس بها في معالجة آثار الأزمات والكوارث الطبيعية في لبنان خلال السنوات الماضية). وتقوم الجهة المحددة من الدولة بالتعاون مع البلديات التي لديها المعرفة الأساسية بالوضع المعيشي لسكانها، بالإضافة إلى تعاونها مع الأحزاب الناشطة ووسائل الإعلام للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المتبرعين. وهكذا يكون كل طرف يقوم بعمله بدل أن تُنَصِب كل جهة نفسها مسؤولةً عن معالجة هذه الأزمة.
3– تحديد طبيعة المساعدات: من المهم جداً في هذه الظروف الاستثنائية دراسة طبيعة المساعدات التي يمكن تقديمها للشريحة الإجتماعية المستهدفة وذلك لضمان توفير إحتياجاتها الأساسية من ناحية، وضبط كلفة هذه المساعدات للحرص على استدامتها لأطول فترة ممكنة من ناحية أخرى. وهنا يمكن الإضاءة على أن طبيعة هذه المساعدات لا يجب أن تتخطى حدود المواد الغذائية الأساسية للفرد والعائلة بحسب المعايير العالمية، بالإضافة إلى مواد النظافة الأولية بشكل عام. ونلفت هنا إلى ضرورة شراء هذه السلع والمواد من المنتجات اللبنانية حصراً وذلك للحرص على إنعاش دورة الإنتاج المحلية والتي كان غيابها سابقاً أحد الحلقات الناقصة التي ساهمت في تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان.
4– وضع معايير لتقديم المساعدات: من خلال الخبرات التي شهدناها سابقاً وبحسب أفضل الممارسات العالمية، لا بد من وضع مجموعة من المعايير التي يتم على أساسها تحديد الشريحة المستهدفة وأهلية كل مستفيد بشكل صارم، وذلك لتحقيق الهدف من وراء هذه المساعدات ودرء أي سلوك غير شفاف في التعاطي مع المسألة. وممكن أن تعتمد هذه الخطوة على معطيات البلديات بالإضافة إلى استمارات يتم تأكيدها من أكثر من طرف Multi-control مع تدقيق لاحق من قبل جهة مستقلة للتأكد من مطابقة المستفيدين للمعايير المعتمدة.
5– وضع آلية ناجعة للتنفيذ: إن الآلية التي يجب اعتمادها لتوزيع المساعدات يمكن أن تستوحى من نموذج اللواء اللوجستي في الجيش اللبناني الذي يعتمد مقاربة المخزن المركزي وذلك لضبط المواد وطريقة تخزينها ولتفعيل الإدارة. ويتم هذا الأمر تحت إشراف وإدارة الجهة التي حددتها الدولة. فطبيعة لبنان الجغرافية تسمح بالوصول من أي منطقة إلى إلى مخزن مركزي للمساعدات في غضون ثلاث ساعات على الأكثر. بالتالي يمكن للبلديات أو لآليات الجيش اللبناني أن تنقل المساعدات بحسب جدول أسبوعي أو نصف شهري إلى مراكز البلديات حيث يتقدم المستفيد الذي يتم تبليغه من قبل البلدية مسبقاً للحصول على مساعدته المستحقة.
6– خلق قنوات التواصل بين المواطن والجهة المعنية: إن إدارة أي أزمة، يعتمد بشكل كبير على التواصل الفعال بقدر اعتماده على الخطوات التنفيذية. فتوفير قنوات تواصل متبادل بين الشريحة المستهدفة من المواطنين وبين الجهة المسؤولة من قبل الدولة يساعد بشكل كبير على توفير الإجابات الواضحة لاستفسارات المواطنين. بالإضافة، فإنها تخفف من سوء الفهم، وتعزز الشفافية، وتقطع الطريق على الاشاعات أو على استغلال هذه المبادرة الوطنية من بعض من يهوون الاصطياد في الماء العكر. ومن الضروري أن تنحصر قنوات التواصل بنقطة اتصال موحدة، وذلك لتفادي تضارب المعلومات، وتوحيد مصدرها على مستوى الوطن.
7– اعتماد آلية مراقبة وتصحيح: كما في أي مبادرة سيكون هناك ثغرات ونقاط ضعف، خاصةً وأن هذه الخطة إذا تم تبنيها، سيتم البدء بتطبيقها بوقت قياسي لا يتعدى الأسبوعين مما سيترك المجال مفتوحاً لحصول بعض الأخطاء غير المقصودة. وآلية المراقبة والتصحيح هذه يجب أن تأتي من قبل طرف مستقل يحدد مسبقاً ويعمل على متابعة تنفيذ نشاطات جمع التبرعات، والشراء، والتخزين، والتوزيع، ويؤكد على أخذ الخطوات التصحيحية اللازمة لترتيب أي خلل وتفادي تكرار الخطأ.
إن الحالة التي نعيش فيها اليوم هي حالة استثنائية، وكما يقال، فإن الأوضاع الاستثنائية تتطلب اتخاذ إجراءات استثنائية. وموضوع الإنفجار الاجتماعي المعيشي اليوم هو الأمر الأكثر خطورة في لبنان بعد الكورونا، فإن الجروح لم تشف حتى الآن من آثار الحركات الإرهابية التي تمسكنت في عقل مجموعة من الشباب والتي كان الجهل والفقر من أكبر المحركات المساعدة لها. هذا بالإضافة إلى التحدياتٍ العابرة للحدود، منها موضوع اللاجئين السوريين، وموضوع اللاجئن الفلسطينيين (على ضوء صفقة القرن المشؤمة)، وأخيراً كارثة الإنهيار المالي والاقتصادي التي ساهم فيها المجموعة الأكبر من السياسيين والرأسماليين والمصرفيين في البلد.
فلنهب للعمل اليوم قبل الغد لمعالجة الوضع الاجتماعي المعيشي من خلال توفير وتنظيم وصول المساعدات إلى الشريحة المحتاجة من مجتمعنا، لأن تجاهل هذا الأمر، أو عدم الالتفات له بحجة تسخير كل مقومات الدولة لمحاربة الوباء، ممكن أن يؤدي بنا في المستقبل القريب وبعد انتهاء زمن الكورونا إلى أن نحارب بعضنا البعض.
شارل س. صليبا
خبير في الشؤون التنظيمية وإدارة الموارد البشرية
كاتب وباحث في مجال القيادة والسلوك التنظيمي
رئيس جمعية الاستشاريين اللبنانيين
* www.lb.undp.org/content/lebanon/en/home/sustainable-development-goals/goal-1-no-poverty