من يتابع تطور الأحداث في لبنان أخيراً، يمكن أن يلاحظ أن أحد المؤثرين الرئيسيين في اللعبة قد رفع وتيرة الاحداث الى مستوى جديد. ولا يجب أن يفاجئ هذا الأمر أحداً منا، خاصة في ظل التغيرات الاقليمية التي شهدناها في الأسابيع الماضية من الملف الليبي إلى الملف السوري والعراقي إلى سد النهضة إلى ترسيم الحدود بين مصر واليونان إلى تعنت العدو في احتلال أراضٍ فلسطينية جديدة، وغيرها من التطورات. فالواضح أنه هناك عملية إعادة تموضع بين اللاعبين الإقليميين والقوتين المهيمنتين كل بحسب مصالحه.
ولا يخرج الملف اللبناني عن هذا المحور من التغيرات التي تأتي لتزيد من ثقل جروحات بلد هو أصلاً مثخن بجراح أحدثها فيه الداني قبل القاصي. فلبنان يترنح من جهة بين عقده الداخلية المتمثلة بتخبط قواه السياسية والاقتصادية في لجة لا توصف من فقدان البصر والبصيرة وتغليب مصلحة الجزء على مصلحة الكل، وبين تحمل لكمات المجتمع الدولي الذي ضاق ذرعاً بنا وبمشاكلنا وبفسادنا حتى أصبح يتمنى لنا الزوال. وربما لو كان لبنان قائماً على جزيرة نائية لكان العالم تكاتف على إغراقه للتخلص من كتلة الفساد والغرور والعمى التي صبغت هذه البقعة المقدسة من الأرض فأحالتها بؤرةً لجائحة أقوى بمئات الأضعاف من الكورونا.
ومع ذلك، فإن كل هذا لا يبرر، من الناحية الإنسانية وضع شعب بكامله في مواجهة مباشرة مع وحش الجوع والذل لخدمة مصالح داخلية أو خارجية أياً تكن. ولكن يبدو أن من لا يرى الإنسان إلا كائناً مسيراً بإرادة سياسية، ومن بهت عنده معنى الإنسانية، لا يهمه ما يحدث لشعب أو شعوب، فكل هذا بالنسبة لهؤلاء، لا يعدو كونه خسائر جانبية Collateral Damage.
ومن أحد أعمال هذه المجموعة أو المجموعات هي أنها ليست تسعى فقط إلى خلخلة البلد، وإنما تدفع ثمن انهياره بكل ما في الكلمة من معنى، والدليل على ذلك الارتفاع غير المبرر لسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. فالمنطق الاقتصادي البسيط يقول أن سعر أي شيء يتأثر بحركة العرض والطلب، فكلما قلَّ الطلب كلما قلَّ السعر، وكلما زاد الطلب كلما زاد السعر. وعليه فإن ما يمكن أن يبرر ارتفاع سعر الدولار هو زيادة الطلب عليه، وليس في هذا أمر جديد. وهنا ندخل إلى السؤال التالي: ما هو مصدر زيادة الطلب على الدولار؟ المنطق هنا أيضاً يقول أن زيادة الطلب في لبنان تأتي – بالظاهر – من ثلاثة مصادر رئيسية. الأول هو حاجة التجار والمستوردين للعملة الصعبة لتسديد مستحقات الموردين، والثاني هو تهافت الناس على شراء الدولار لحماية ودائعهم أو على الأقل حماية ما يحملونه من مال ورقي، والثالث هو مستثمرين انتحاريين لديهم الكثير من العملة اللبنانية الورقية يشترون بها الدولار لكسب الربح من خلال المتاجرة به.
إذا أخذنا الفئة الأولى، فالمنطق يقول بأن حجم الاستيراد لا بد أنه تقلص بشكل كبير مع هبوط سوق الكماليات التي لم يعد للشعب اللبناني من مقدرة على شرائها. بالإضافة، فإن القدرة الشرائية للمواطن قد تضاءلت حتى بالنسبة للسلع الأساسية نتيجة هبوط قيمة العملة. وبالتالي فإن طلب التجار والمستوردين على الدولار، لا بد وأنه قد انخفض بشكل كبير، أي ما دون ال ١٦ أو ١٧ مليار دولار التي كانت تشكل حجم الاستيراد في لبنان.
كذلك، إذا أخذنا الفئة الثانية، فإن عدد المواطنين الذين يحملون العملة الورقية بكميات كبيرة ليسوا كثر، وحتى لو افترضنا أن هؤلاء تهافتوا على شراء الدولار، فإن حجم طلبهم لا يمكن أن يرفع قيمته إلى هذه المستويات غير المنطقية.
أما إذا أخذنا الفئة الثالثة، فإن المستثمر الانتحاري الذي يشتري الدولار على سعر ٥،٠٠٠ ليرة لا بد أنه يأمل أن يرتفع الدولار إلى ما فوق هذا السعر لتحقيق الأرباح، وفي هذا قمة المخاطرة من ناحية المنطق التجاري خاصة مع تأرجح الأسعار بشكل يومي. ولنفترض أن هناك مجموعة من المستثمرين الانتحاريين، فهل يكون طلبهم على الدولار بهذا الحجم الضخم ليؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف بشكل جنوني. ثم، من أين لهؤلاء كمية النقد اللبناني الورقي الضخمة هذه، اللهم إلا إذا كانوا كما يقال بالعامية “شو قاعدين عبنك؟”، ولا نظن لأن بعض الظن إثم.
ثم إذا افترضنا جدلاً أن الفئات الثلاث أعلاه تزيد الطلب على الدولار، فمن أين للصرافين الدولارات الورقية؟ ومن أين يأتي الصرافون غير الشرعيّون بالكاش؟ ولماذا يشتري الصرافون الدولار بسعر مرتفع، ويحجمون عن بيعه في الكثير من الأوقات، فهذا يتعارض مع منطق التجارة؟
إذن، يبقى السبب غير الظاهر لارتفاع سعر صرف الدولار الجنوني هذا، وهو أنه هناك من يدفع ثمن انهيار العملة اللبنانية وبالتالي الاقتصاد اللبناني، دون أن يأمل باسترداد أمواله عن طريق الاتجار بالدولار. فمن يشتري الدولار على ٣،٠٠٠ وعلى ٤،٠٠٠ وعلى ٥،٠٠٠ وعلى ٦،٠٠٠ و ٧،٠٠٠ ليرة للدولار الواحد ليس تاجر عملةٍ وإنما تاجر حرب يسعى الى تحقيق هدف يتخطى بساطة التجارة بالمال، وهو يعلم أنه سيسترد أمواله بطرق أخرى أعقد بكثير من لعبة بيع وشراء حفنة من الدولارات هنا وهناك.
حمى الله لبنان كما يفعل دائماً، فالله أكبر.
شارل س. صليبا
Positive Thinker
Organizational, Leadership & HR Expert
Copyright – Charles Saliba © 2020