Articles

مؤشرات نجاح نموذج التكنوقراط في لبنان

لا بد أن الموضوع الذي يشغل لبنان والعالم اليوم هو ملحمة مكافحة فيروس الكورونا وكيفية التخلص من هذا الوباء الذي ضرب البشر ومعهم الاقتصاد العالمي وخطط النمو والاستثمار والتوسع والتنمية والتطوير وغيرها. ولو أمعنا في تقييم الوضع الراهن يمكن أن نستنتج أن العودة إلى المستقبل ستكون بحاجة إلى جهود جبارة على صعيد الأفراد والمؤسسات لإعادة وضع عجلة الحضارة الإنسانية على السكة من جديد. فالعالم بدون الكورونا كان يتخبط في لجة التغيير غير المتوازن، والتطور التكنولوجي الذي أصبح الجزء الأكبر منه يركز على تحويل الإنسان إلى آلة تلقي وليس إلى كيان مفكر. هذا بالإضافة إلى ما فعلته السياسة الخسيسة الجائعة إلى إعادة توزيع الثروات على حساب شعوبٍ أنهكتها الحروب والصراعات الدموية لعقود. واليوم أتى هذا الوباء ليدك حصن الحضارة الإنسانية، ويبدو أنه أخذها على حين غرة في وقت كان الجميع متله بصراعاته، وأجنداته، ومماحكاته، ومناظراته العقيمة حول من هو الأقوى ومن هو الأفهم ومن هو الأذكى. ولا يخرج لبنان من هذه الدائرة، فهو أيضاً كان قبل الكورونا غارقاً في الصراعات، والأجندات، والمماحكات والجدلية العقيمة إلا من  والتفاهة وتأليه الذات.

وأركز هنا على الحالة التي كان يعاني منها لبنان قبل الوباء وبالأخص في ما يتعلق باللجوء إلى حكومة تكنوقراط لمحاولة إنقاذ ما تبقى من مؤسسات في دولة تفاقم فيها فجور الفاسد لدرجة أصبح معها “الأوادم” يشكون بصحتهم العقلية، ولدرجة أصبح الفساد عدوى طالت معظم الشعب اللبناني بكافة أطيافه وطبقاته. فالإنهيار الذي وصل إليه لبنان كان من صنيع كافة اللبنانيين – وكنت قد كتبت مقالة سابقة بعنوان “كلنا شركاء في الجريمة” – تحت قيادة طبقة سياسية فيها من الفساد ما يمكنها أن تعلم هذه المادة في أهم مجامع الفاسدين حول العالم. فقد أخذ موضوع تعيين حكومة تكنوقراط الحيز الأكبر من النقاشات التي تبعت إنتفاضة 17 تشرين الأول 2019. فالشعب الذي ضاق بالفساد المكشوف، انفجر غضباً من استغباء السياسيين له وعدم اكتراثهم بتوفير أبسط حقوقهم في دولة تراكمت الديون فيها إلى أكثر من 90 مليار دولار دون أن تتمكن من توفير الكهرباء ولو حتى لمدة 12 ساعة يومياً. كل هذا، وبعد الكثير من التكابر السياسي الذي اعتاده ملوك السياسة في لبنان تحت شعار “الحق مش عليي، شوفو غيري”، ومع تجاهل ما كان يطلبه الشعب في الشارع خلال الأيام الأولى للانتفاضة – قبل تسييسها – ومحاولات العودة إلى منظومة الحكومات التقليدية المتخمة بقلة الكفاءة، رضي الجزء الأكبر من القوى السياسية بحكومة تكنوقراط يرأسها الدكتور حسان دياب. ولعل الفضل في هذا الاختراق لا يعود إلى وعي السياسيين، أكثر منه إلى المنزلق الخطير الذي وصلت إليه البلاد، واستنفار الجهات الدولية لما آل إليه الوضع الإقتصادي والمالي في لبنان وخوفهم على خسارة ملياراتهم ال 90 التي نهب الجزء الأكبر منها سياسيو ومتعهدوا الفساد في لبنان.

في الحصيلة، تم تسمية الحكومة الجديدة ومُنحت الثقة في 11 شباط 2020. وعلى غير ما اعتدنا عليه من تعامل مع التشكيلات الوزارية لعقود خلت، والتي كانت تعتمد على مقاربة المحاصصة والترضية باستحداث وإلغاء وزارات بشطبة قلم واللجوء إلى بدعة “وزير دولة” لإرضاء كافة الأطياف السياسية، جاءت الحكومة الجديدة مؤلفة من 20 وزيراً فقط (مقارنة بالوزارات الثلاثينية)، ولولا تجاوب الرئيس دياب مع بعض التمنيات، لكانت الوزارة مؤلفة من 18 وزيراً على الأكثر. وقد أخذت هذه الحكومة على عاتقها موضوع الإنقاذ مع تأكيد رئيسها على أن حكومته ليست هنا لمنافسة أو أخذ مكان أي فريق سياسي، وإنما للعمل فقط على محاولة إنقاذ الوضع الإقتصادي في لبنان. ومع دخول الوزراء كل إلى وزارته، لحقت بهم أبواق التشويش والإشاعات والإتهامات والتنظير السياسي الذي يصل إلى حد الغباء. وبالرغم من أن الكثير منا كان يشكك في قدرة الفريق الوزاري على فعل أي شيء في ظل سيطرة السياسة التقليدية على كل المحاور داخل وخارج الوزارات، لكن مع الوقت القليل جداً، وبعد ما رأيناه من أداء حتى الآن، فإننا يجب أن نعترف بأننا أمام أمر جديد في عملية إدارة الدولة لم نعتد أن نراه في لبنان من قبل. ويؤكد هذا الأمر على إمكانية نجاح التكنوقراط في إدارة لبنان وتحويل هذا الحلم بوطن حضاري منظم ومبني على دولة المؤسسات والقانون إلى حقيقة.

والمقاربة في قراءة هذا الأمر، هي مقاربة علمية بحتة ولا تمت للسياسة بصلة (فأنا لا أعرف الرئيس دياب ولا أي من الوزراء)، وتنطلق من مقارنة طريقة عمل الحكومة مع المبادئ العالمية للإدارةUniversal Principles of Management  . وندرج هذه القراءات في ما يلي:

1- الفعالية العددية: أكدت الحكومة الجديدة أن بلد بحجم لبنان ليس بحاجة إلى حكومة من أكثر من 15 إلى 18 وزيراً حتى يدار البلد بطريقةٍ فعالة. فحكومات الثلاثين وزيراً لم تثبت شيئاً إلا قدرتها على مراكمة الديون و “حرق الطبخة” والسفسطة الجدلية العقيمة.

2- وحدوية القيادة: من الواضح حتى الآن أن الدكتور حسان دياب هو وحده قائد الأوركسترا الوزارية في البلد، ومع تنسيقه التام والصريح مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، فإنه يتحمل المسؤولية التي أوكلها إليه القانون وحده ودون تدخل من قِبَل أحد لخلق إدارة موازية Shadow Authority.

3- وحدة المرجعية: أظهر الوزراء حتى الآن أن لديهم رئيس واحد وهو مرجعهم في كافة الأمور التقنية والإدارية – ولا نقول السياسية لأن أياً منهم يعمل في السياسة على الأقل ظاهرياً – مما يؤكد أنه يمكن للوزير أن يكون من التكنوقراط وأن ينجح في عمله إذا تُرك وشأنه من التدخلات السياسية.

4- التخطيط والإدارة: “لا إنجاز بدون تخطيط” هو مبدأ أساسي في عملية الإدارة، ولا بد أن الخلفية العلمية للدكتور دياب في مجال إدارة المشاريع Project Management، من تخطيط ومتابعة وتقييم وتحسين، ساهمت بشكل مباشر في مقاربة العمل لدى الوزرات، ورفعت من فرص نجاح عملية إدارة الأزمة بشكل كبير. فالمثال الذي أظهرته الحكومة بالتنسيق مع الرئيس عون لتقييم قرار إعلان الطوارئ الصحية وخطة العمل التي تم تبنيها بشكل لا يؤدي إلى حدوث غضب من قبل الشعب، أظهرت مهارة كبيرة في تحديد الخيارات وتقييمها واتخاذ القرار الأنسب للوطن والمواطن.

5- التماهي والتنسيق: منذ قراءته للبيان الوزاري، ما زال الرئيس دياب ملتزماً بما وعد به من بذل كل الجهود لإنقاذ الوضع في لبنان من براثن الإنهيار التام للدولة ومؤسساتها. وقد أتى وباء الكورونا ليزيد على “التقل حمال” كما يقال بالعامية، لكن ما لاحظناه من عمل دؤوب لكافة الوزارات ومستوى التنسيق المميز بين الوزراء ووحدة الكلمة بينهم وبين رئيس الحكومة (على الأقل ظاهرياً) وعدم تغريد أحد الوزراء خارج السرب كما كان يحصل دائماً في الوزارات السابقة، أكد أن التكنوقراط في لبنان هو تجربة قابلة للنجاح والنجاح الباهر، مقارنة بالإدمان على الفشل الذي أظهرته لنا الكثير من الحكومات السابقة ووزرائها.

6- العلم والمعرفة والخبرة: وتبقى الإدارة الناجحة لأي شيء في هذا العالم مبنية على العلم والمعرفة والخبرة، وهذا ما قدمه لنا حتى الآن نموذج حكومة التكنوقراط في لبنان. فبعد أن حكم وزارات البلد الكثير من الوزراء الذين – مع احترامنا لشخصهم – لا يفقهون الكثير في مجال اختصاص وزاراتهم، وهو – لمن لا يعرف بعالم الإدارة – خطيئة لا تغتفر وممارسة غير مقبولة، نرى مجموعة من الكوادر الشابة المتعلمة تقوم أخيراً بإدارة البلد، وهو أمر كنا نطمح إليه منذ زمنٍ بعيد.

7- التواصل: من أهم مبادئ الإدارة الفعالة هو التواصل المستمر مع كافة الأطراف المعنية. وهنا أيضاً أظهر لنا النموذج الجديد مثالاً على أهمية التواصل في إدارة الأزمات، فمستوى التعامل والتواصل الإيجابي والمحترم والمتواضع بين الوزراء التكنوقراط والمواطنين أمر يبعث على الأمل في خضم التحديات التي نواجهها جميعاً.

8- العمل الدؤوب: من أهم مبادئ الإدارة الفعالة هو أن النجاح لا يمكن أن يحصل إلا بالعمل الحثيث والجهد والبقاء ساعات طويلة في مكان العمل لتحقيق الأهداف، وهذا أمر لاحظناه لدى الفريق الحكومي من الرئيس وحتى كافة الوزراء والمساعدين. فبعد أن كانت معظم الوزرات تصبح مدن أشباح بعد الساعة الثانية أو الثالثة بعد الظهر، أصبحنا إلى حد ما نجد أن الكثير من الوزارات تحولت إلى خلايا نحل لا تهدأ وخاصة في متابعة أمور إدارة الأزمة والتعامل مع وباء الكورونا.

هذه القراءة العلمية لأداء التكنوقراط في لبنان هي قراءة مبدئية، ويمكن مراجعتها خلال فترة عمل الحكومة. لقد مرت حكومة الرئيس دياب حتى اليوم باستحقاق اليوروبوند وهي تمر الآن باستحقاق إدارة وباء الكورونا وقد أظهرت النتائج إلى الآن تماسك تجربة التكنوقراط في لبنان وفعاليتها في إدارة الأمور بروية وتواضع وبأسلوبٍ علمي بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة التي كان البلد يتخبط بها خلال الفترة الماضية. لدينا أمل كبير بعبور هذه المرحلة بنجاح حتى نتثبت بشكل تام من جدوى حكومة التكنوقراط، كما ويملأنا الأمل عندما نرى مستوى التنسيق بين الرئاسات الثلاث ووضع الكثير من الاعتبارات السياسية جانباً لما فيه مصلحة الحياة في لبنان.

شارل س. صليبا
خبير في الشؤون التنظيمية وإدارة الموارد البشرية
كاتب وباحث في مجال القيادة والسلوك التنظيمي
رئيس جمعية الاستشاريين اللبنانيين