Articles

”لبنان المستحيل“ خمسُ مِحَن في ما يُشبِه وطن

كتب نعوم تشومسكي في العام 2006 أحد أهم كتبه وهو “الدول الفاشلة” Failed States، وقد تحدث فيه عن كيف أن سلوك الولايات المتحدة الأميركية أصبح يشبه إلى حد كبير سلوك الدول الفاشلة المنتشرة في كافة أنحاء العالم. وفي عمق الكتاب، يحاول تشومسكي أن يقول أن استغلال القوة، والاعتداء على الديمقراطية من خلال كسر القوانين المحلية والدولية وتسخيرها لخدمة المصالح الضيقة من قبل الولايات المتحدة هو سلوك جدير بالدول الفاشلة، وهو لا يجلب السلام بل يضاعف الخطر على المصالح الأميركية ومواطنيها.

بالواقع، ما يهم هنا هو ليس كتاب تشومسكي بقدر ما هو الرسالة الأزلية التي تقول أن استغلال القوة وعدم احترام القانون وتسخيره للمصالح الشخصية أو الضيقة في أي دولة، حتى وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية، سيؤدي حتماً إلى دولة فاشلة بكافة المعايير. هذا واقع صحيح ومدعوم بالأدلة والبراهين لمن أراد أن يفهم. وليس عدد الدول الفاشلة المتزايد في العالم إلا دليلاً على مدى الهبوط الفكري والاهتراء القيمي في المجتمعات البشرية بشكل عام وفي ما يسمى دولاً بشكل خاص، وذلك لناحية تشابه النتائج بغض النظر عن نظام الحكم المعتمد. فإذا نظرنا إلى حفنة من الدول الفاشلة نجد أن نظام الحكم فيها ممكن أن يختلف من دولة إلى أخرى، وإنما نتيجة الحكم واحدة، وهي الفشل. وبالرغم من تعدد أسباب الفشل بين صراعات سياسية، وعسكرية، واقتصادية، واجتماعية، فإنه يبدو أن استغلال السلطة والقوانين هو من أهم الأسباب التي تتشارك بها كافة الدول الفاشلة.

يتبادر هنا النموذج اللبناني كمثال على دولة فاشلة أو في طور الفشل، هذا إذا كنا شديدي التفاؤل. ويحضُر إلى الأذهان سؤال كبير وهو “هل كان لبنان في يوم من الأيام دولةً، ليكون الآن دولةً فاشلة؟”، وربما أكثر من هذا “هل كان يجب للبنان أن يكون دولةً بالأصل؟”. أعلم أن هذين السؤالين موجعين جداً للكثيرين ممن يفقهون كنه عظمة هذا اللبنان، ولن يقدر أن يفهمهما من لم يؤمن يوماً به ككيان واحد للجميع.  ولكن المرض العُضال لا يمكن شفاءه إلا إذا اعترف الإنسان بوجوده أصلاً. فتكاثر المحن دون السعي الجدي والصادق لمعالجتها لا يأتي إلا بالمزيد من المحن، وهنا بيت الداء في لبنان. أنه مجموعة المحن التي يقارب التكلم عنها مستوى المسّ بالمحرمات، وذلك لربما خوفاً من انهيار كيان عظيم بفكرته ولكنه شديد الهشاشة بواقعه. فلبنان الفكرة لطالما كان أكثر عَظَمَةً في الأذهان من لبنان الواقع. وقد سكنت هذه الفكرة في القلوب والعقول والنفوس حتى أن الكتاب المقدس لم يوفر جهداً لذكر لبنان ومجده 71 مرة، والأرز 75 مرة، وصور 59 مرة، وصيدا 50 مرة. ولكن ما يفوت الكثيرين أن لبنان لم يُذكر في الكتاب على أنه دولةً وإنما لكونه أرض اللبان والبخور والينابيع والمجد والأرز الذي دُفَّ به هيكل سليمان، وكل هذا في محيط جاف.

إن ما يؤول إليه الأمر في لبنان لا يتعدى تكرار المشاهد ذاتها التي مازالت تتكرر منذ أكثر من ألفي سنة. بقعة من الأرض الغنّاء على طريق الحرير والنفط والسلاح والإيديولوجيات والأديان. بقعة أكبر من أن تبتلع وأصغر من أن تُقَسّم، يتقاذفها تجار الهيكل غير آبهين لأن من يعبدونه هو إله المال والوثن الذي لا يناسبه بناء الأوطان. إن مشاهد الحرب، الدمار، والألم الرهيب في لبنان ستتكرر حتماً لأن الجميع يحاول أن يصنع منه شيئاً هو في غير خاصيته، شيئاً لا يمكن أن يكونه. وكأنك تتوقع من الأرنب أن يصبح جَمَلاً، الأمر الذي لن يحصل، والجميع يعلم أنه لن يحصل. وطالما أن الكلام عن هذا الأمر هو من المحرمات، فإن أحداً لن يقدر على حل أزمة لبنان إلى الأبد. فقط عندما نعترف بالمحن التكوينية للبنان يمكننا أن نجرؤ على التكلم عن حل لهذا الكيان.

منذ تحوله إلى متصرفية في العام 1861، مروراً بإعلان لبنان الكبير في العام 1920، وانتهاءً بالاستقلال في العام 1943 وإنشاء لبنان كدولةٍ مستقلة، حمل لبنان – وسيبقى يحمل – خمس محن جوهرية تقبع في صلب مشكلته وتبقى السبب الرئيسي لاستمرار معاناته. هذه المحن هي:

1. محنة الجينات

رسا لبنان منذ البدء على شاطئ البحر المتوسط، هذا الكيان المائي الذي جعل الكثير من الحضارة الإنسانية ممكنة. وهو لم ينئ بنفسه عن أن يكون أيضاً ممراً تجارياً وعسكرياً يربط أفريقيا وبلاد المشرق والخليج العربي حتى أوروبا. وقد مارست الشعوب التي سكنت لبنان على مر السنين (وخاصة على ساحله) أحد أقدم المهن في العالم ألا وهي مهنة التجارة. في ما بعد أتى الفينيقيون ليأخذوا هذه المهنة إلى مستوى آخر من خلال إبحارهم بسفنهم الى كل بلدان العالم. ومن دون شك، فقد قولب هذا الأمر على مر العصور جينات الشعوب التي سكنت في لبنان، حتى أصبحت التجارة تجري في عروقهم، ليس فقط من خلال عملهم وإنما في كافة علاقاتهم الإنسانية والسياسة والاجتماعية وغيرها.

إن الشعوب التي اتخذت لبنان مسكناً لها تحترف التجارة ليس اختيارياً وإنما جينياً. وقد تعززت هذه الميزة بشكل كبير مع تطور المجتمع ودخول العلم إليه من خلال المدارس والجامعات، حتى تخال أن هذه الشعوب تمتهن التجارة في كل شيء من الوطنية إلى المستشفيات والمدارس والزواج وسوق السمك. إن جينات من يُسَمَونَ باللبنانيين هي جينات تجار، والتاجر يفعل ما هو مفطور عليه، ألا وهو البيع والشراء. لا مكان للمشاعر عند التاجر؛ بالنسبة إليه، الأمر هو عملية تبادل بسيطة، وكما يقول الأجانب No Hard Feelings. لذلك، فإننا لا نرى الكثير من الشعور بالذنب لدى كل من ساهم بتجريم لبنان (كلمة تجريم هي مصطلح تقني يستعمل في النقل البحري ويعني إفراغ السفينة من حمولتها من المستوعبات) لأن الأمر بالنسبة لهم هو فقط عملية تبادل تجاري، وNo Hard Feelings ! إن هذه حقاً لمحنة، وهي من أشدها مقاومةً للتغيير.

2. محنة الهوية

لعل القارئ قد لاحظ أني لم استخدم اعلاه تعبير الشعب اللبناني أو المواطنين اللبنانيين، وهو أمر مقصود. فإن استخدام تعبير شعب يفترض وجود شعب واحد وليس مجموعة شعوب. أما استخدام كلمة لبناني فإنه يفترض أن يكون هناك أولاً تعريف موحد لما تعنيه هذه الكلمة، ويفترض ثانياً ممارسة موحدة لهذه الصفة من قبل كل من يحملها، وهذا الأمر غير موجود أيضاً. فلبنان الحديث بجغرافيته السياسية لم يكن يوماً دولة متكاملة في التاريخ القديم، ولذلك فإن الشعوب التي سكنته على مر العصور لم تكن يوماً شعباً واحداً يمكن أن يُطلَق عليه تسمية الشعب اللبناني. فبين الساحل والجبل، وبين الجنوب والشمال كان لبنان الذي نعرفه اليوم دائماً مقطعاً مفصلاً على شكل إمارات وولايات تحكمها قبائل حضرية مقسمة بحسب القومية والدين بشكل أساسي. وقد طُبِعَ هذا الواقع في أذهان سكان لبنان على مر الأزمنة حتى ترسخت محنة الهوية في مفهوم الشعوب التي سكنته حتى يومنا هذا. فمن الناحية القومية، يعتبر الكثير من المسيحيين أنهم فينيقيين، بينما يرى الجزء الأكبر من المسلمين أنهم عرب. وفي زمن الحملات الصليبية تعامل هؤلاء مع مسيحيي الشرق ولبنان على أنهم عرب، بينما تعامل معهم المسلمين على أنهم روم. أما خلال الحكم العثماني فقد كان المسلمين مواطني الخلافة، أما المسيحيين فقد كانوا أهل ذمة.

لم تترسخ يوماً في ذهن أي من سكان لبنان فكرة الهوية اللبنانية بشكل كافٍ ووافٍ لأن الاضطرابات السياسية والحروب كانت دائماً عامل لعدم استقرار هذه الهوية في العقول والنفوس. حتى في تأسيسه لم تكن هوية لبنان الكبير شاملة للكل، فهو للموارنة كان الملجأ الأخير من الاضطهاد، وللدروز كان الوطن الذي حلموا به منذ مجيء محمد بن إسماعيل الدرزي إلى وادي التيم، وللشيعة كان كياناً أكثر ليونة بالنسبة لطائفة المحرومين مقارنة بحكم الخلافة العثمانية. وبالمقابل، فقد كان لبنان الكبير طعنة في خاصرة الدولة العثمانية المتهالكة، وفرصة ضائعة لأن يكون السُنّة جزء من بلاد الشام.

وحتى يومنا هذا، لم تتبلور الهوية اللبنانية بشكل مختلف عن ما كانت عليه قبل إعلان دولة لبنان الكبير. فلبنان اليوم يجمع أكثر من سبعة أمم في وطنٍ واحد، لكل منهم صورته الخاصة عن لبنان الذي يريده، وهذه الصورة ليست أبدً موَحَدَة بل تختلف من مجموعة إلى أخرى. فمن ناحية هناك اليوم لبنان المسلم الذي لم يعد يرضى أن يكون المسيحي شريكاً رئيسياً بل شريك من الدرجة الثانية وذلك لأسباب ديموغرافية بشكل أساسي ودينية إلى حدٍ ما أيضاً، ومن ناحية أخرى هناك لبنان المسيحي الذي يعاني أزمة وجودية في محيط إسلامي معادٍ إلى حد كبير وفي عالم مسيحي غربي ضعفت قيمه الدينية وهو غير قادر على حمايته بعد اليوم. هناك اليوم أيضاً لبنان السني المتشدد الذي يريد أن يقيم الخلافة لأسباب تتعلق بالسلف الصالح، وهناك لبنان الشيعي المتشدد الذي يريد أن يقيم ولاية الفقيه لتوسيع القوة الشيعية في محيطٍ سني. هناك اليوم لبنان الماروني الذي يحلم بأمجاد لبنان الكبير وباستعادة الدور التأسيسي للمارونية السياسية، وهناك لبنان الدرزي الذي لم يخرج من عقدة أن الأجداد هم من أتو أولاً وعملوا على تأسيس لبنان؛ إضافة إلى أن لبنان الدرزي يعاني اليوم أكثر من أي وقت مضى من التحدي الوجودي الذي تواجهه جميع الأقليات في العالم. كذلك، هناك لبنان المعتدل وفيه من السنة والشيعة والموارنة وباقي المسيحيين والدروز واليساريين وغيرهم من العلمانيين الذين يطمحون إلى دولة مدنية قائمة على أسس الحضارة والقانون وحرية التعبير وقبول الآخر والاندماج معه كمواطن وأخ وصديق ونديم ومفكر وغيره. هناك أيضاً لبنان القومي الذي يرى الخلاص بالاندماج مع كيان أكبر، متماسك، موحد، وقادر سياسياً واقتصادياً، وهناك لبنان الفلسطيني الحائر بين هويته الأصلية التي لا تمنحه أكثر من صفة لاجئ، وهويته العربية التي يرى فيها محيطاً قد تخلى عن قضيته، وهويته اللبنانية في بلد احتضنه على حسابه وحساب أمنه واقتصاده وديمغرافيته وسلامه وازدهاره.

إذا أردنا، يمكننا أن نعدد الكثير من “اللبنانات”، فهناك لبنان الأحزاب، ولبنان العشائر، ولبنانات مفصلة على القياس جاهزة للبيع لأي من السفارات التي تدفع السعر المطلوب. إن محنة الهوية لمتجذرة في تاريخ لبنان وفي ذهن الشعوب التي تسكنه لدرجة لا يمكن معها التنبؤ بأنه هناك أمل بالتحول من مجموعة أمم في بلد إلى طغمات مواطنين في وطن، إلا إذا توفرت مجموعة من المقومات التي تبدو إلى الآن – وفي قراءة وافية للتاريخ – مستحيلة.

3. محنة المقومات

هناك مجموعة لا بأس بها من المقومات التي يجب أن تتوافر في كيان محدد حتى يصبح هذا الكيان مؤهلاً ليكون بلداً أو دولةً. ومن هذه المقومات أذكر الثلاثة الأهم، والتي يفتقد إليها لبنان بشكل كبير مما لا يسمح له بأن يكون دولة. من المقومات الأساسية لنشوء الدولة هو توفر الجغرافيا، والجغرافيا الكافية. 10452 كلم2 هي مساحة كافية فقط لكيان ذو وضع خاص ولكن ليس لدولة كاملة المواصفات، خاصةً إذا كانت بالأصل تعاني من محنة هوية تُفككها وتُقسمها إلى مجموعة كيانات قومية ودينية غير مستقرة. إضافة إلى هذا، فإن المساحة يجب أن تكون كافية لاستدامة الحياة في هذه الدولة، بمعنى أن يبقى الاقتصاد قادراً على أن يوفر الاحتياجات الحياتية للمواطنين بالرغم من النمو السكاني وتضاؤل المساحات المزروعة وتلك المستخدمة للنشاطات الاقتصادية المختلفة.

وتأتي في الإطار ذاته المقومات المتعلقة بإمكانية نشوء اقتصاد متكامل، متوازن، ومستدام في هذه الدولة، الأمر الذي يفتقد إليه لبنان أيضاً. فإن نشوء أي دولة ونجاحها يعتمد بشكل أساسي على توفر اقتصاد قوي قادر أن يؤمن احتياجات المواطنين بالإضافة إلى توفير الدخل الكافي للدولة لتتمكن من القيام بواجباتها تجاه مواطنيها. الاقتصاد المتكامل يعني أن يكون الاقتصاد ناشطاً في مختلف القطاعات وبشكل متوازن بينها على قدر الإمكان، فلا يكون الاقتصاد معتمداً على قطاع واحد فقط بطريقة تشكل خطراً كبيراً إذا انهار هذا القطاع أو أصبح غير مستقراً. والاقتصاد المتوازن يعني أن تكون الدورة الاقتصادية شاملة لكل جغرافيا الوطن ولا تنشط فقط في مراكز معينة. أما الاقتصاد المستدام فهو بكل بساطة الاقتصاد المنتج غير الريعي. فبقاء أي دولة يعتمد على الإنتاج بالدرجة الأولى، وغياب الإنتاج لا يُعَرِّض الدولة فقط لخطر التضخم نتيجة الاستيراد المستمر، وإنما يُضعِف قدرة التطور لدى المجتمع بسبب اهتمام المواطن فقط بلقمة عيشه وليس بنمو مجتمعه. والأخطر هو أن الاقتصاد غير المنتج – وخاصة في حالة الاقتصاد الريعي المعتمد على القانون (كتبني الدول مهمة توظيف مواطنيها جميعاً) أو المستمد من ممارسة الفساد والمحسوبية (كما هو الحال في لبنان) – يشجع المواطنين على الكسل والسطحية وعدم الاكتراث بالوطن لأن هذا المواطن يحصل على حاجاته بسهولة من زعيمه وليس من دولته، فيصبح ارتباطه بالزعيم وليس بالوطن.

وتبقى أخيراً المقومات المتعلقة بالتجانس السكاني. فالمنطق يقول أن من يُنشئ الدولة هم مجموعة من البشر ممن لديهم خلفية قومية، أو دينية، أو عرقية واحدة، الأمر الذي يسهل أيضاً توفر رؤية موحدة للوطن، وقيادة موحدة للوطن، وجيش ونظام وقانون واقتصاد وعادات موحدة للوطن. لعل التجانس هو أهم مقومات نشوء الدولة وحصول الوطن والمواطنة. فبغياب هذا الأمر لا يمكن – ولا يجب إنشاء دولة – وإذا أُنشِئَت فإنك كمن تزرع السرطان في أعضائها منذ الولادة.

إن هذه المقومات الثلاثة هي الأهم، وهناك أخرى أيضاً ربما تكون بذات الأهمية. ولكن ما يهم قوله هنا هو أن هذه المقومات ليست متوفرة في لبنان، وهذا يبرر إلى حدٍ كبير لماذا لم يكن لبنان دولةً في التاريخ القديم، وربما لم يجب أن يكون دولة في التاريخ الحديث. لعله كان الأجدى بلبنان أن يبقى صورةً مثالية في الأذهان أو ذاك الكيان المبجل الذي رسمه لنا الكتاب المقدس.

4. محنة الموقع

صحيح أن موقع لبنان الجغرافي كان السبب الرئيسي لتبلور هذا الكيان المنفتح والمتنوع من الناحية السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية، ولكن هذا الموقع تحول مع الوقت – وخاصة في التاريخ الحديث – إلى نقمة على لبنان وعلى ساكنيه. فها قد اغتصبت إسرائيل فلسطين بأمها وأبوها وبموافقة المجتمع الدولي، فغدى لبنان ملجأً لمئات الألوف من الفلسطينيين، وجاراً لأحد أكثر الكيانات الدينية العنصرية والدموية في العالم الحديث. وقد ختم هذا الأمر مصير لبنان لمئات السنين إن لم يكن إلى الأبد خاصة بعدما تخلت الأمة العربية مؤخراً عن أسلوب المواجهة التقليدي وتبنت المقاربة العقلانية للقضية الفلسطينية تحت شعار “السلام الممكن أفضل من التحرير غير الممكن!”.

وحتى في هذا الأمر، فقد دفع لبنان بسبب موقعه في قلب الصراع العربي-الإسرائيلي، الضريبة الأكبر عن تحرير فلسطين. دفعها ليس فقط بدماء اللبنانيين وإنما أيضاً على حساب أمنه واستقراره وازدهاره وإمكانية تحوله إلى وطن. فلسنين طويلة كان لبنان رأس الحربة في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ولاحقاً منصة انطلاق عمليات المقاومة بتسمياتها المختلفة. ولكن هذه القضية أسهمت أيضاً في تقسيم لبنان بين أكثرية مسلمة مؤيدة للمقاومة المسلحة وأكثرية مسيحية رافضة لها وخاصة بعد أن ظهرت بوادر توطين الفلسطينيين في لبنان، الأمر الذي دغدغ مشاعر المسلمين وأرعب كيان المسيحيين. أسس موقع لبنان وحماس سكانه للقضية الفلسطينية بالإضافة إلى شهية التجارة لدى العديد من سياسيي لبنان ورجال عصاباتهم، لحرب أهلية دامت ظاهرياً لأكثر من 15 عاما، أما فعلياً فهي ما زالت ناراً مستعرة تحت رمادٍ هش. ليس هذا فقط، وإنما على ضوء التقارب العربي الإسرائيلي، أصبحت محنة الموقع هذه أشد وطأةً، وكأن هذا الحصان الذي خاض عليه أنصار التحرير حروبهم ضد إسرائيل، أصبح اليوم غير مرغوب به، وهكذا تُرِكَ ليواجه مصيره أمام صراع عالمي من نوع جديد.

ولا يجب أن نتجاهل أن محنة الموقع تتمثل أيضاً بتلاصق لبنان شرقاً وشمالاً بسوريا التي لم تتقبل إلى اليوم انسلاخ رئتها الكبرى على البحر الأبيض المتوسط عنها. فعاديك عن البعد التاريخي والجغرافي الذي جعل لبنان جزء من بلاد الشام لفتراتٍ طويلة من الزمن، فإن البعد الجيوسياسي والاقتصادي في التاريخ الحديث هو الأمر الأهم بالنسبة إلى سوريا. إن 180 كلم من الساحل لبلد بمساحة 185,180 كلم2 كسوريا مقارنة ب 220 كلم من الساحل لبلد ملاصق بمساحة 10452 كلم2 كلبنان هو أمر لا يُهضَم بسهولة. فهذه الرئة البحرية تصنع كل الفرق بالنسبة لسوريا من الناحية الاقتصادية، إن كان لجهة حركة الاستيراد والتصدير ومدخولها التجاري، أو لحركة النفط والغاز السوري وغيرها من المنافع الاقتصادية الكبيرة التي ترى سوريا أنها خسرتها بسبب انشطار لبنان عنها.

إن محنة موقع لبنان في اليوم الحاضر والمستقبل لن تلعب دوراً مختلفاً عن ما لعبته خلال القضية الفلسطينية أو خلال فترة تلزيم لبنان لسوريا من قِبَل بعض البلدان العربية والغربية. فموقع لبنان سيكون دائماً “قميص عثمان السياسة الإقليمية والعالمية”، والطريق الأقصر لاستنهاض العصبيات من مختلف الأنواع خاصة مع التواجد المستمر لطبقة سياسية مفطورة أصلاً على التجارة والمستعدة دائماً لبيع الوطن والمواطن لقاء مركزٍ وضيع أو حفنةٍ من المال.

5. محنة النظام

عندما أتى الحديث عن استقلال لبنان وتحويله إلى دولة معترف بها في الأمم المتحدة، كان لا بد من استنباط نظام حكم قادر على احتواء كافة الإشكاليات القومية والدينية والفكرية والعقائدية لهذا الكيان اللبناني. وبالرغم من اخذ بعض الوحي من نظام المتصرفية، وبروتوكولات لبنان الكبير، وقوانين الانتداب الفرنسي، سيطر على نظام الحكم الديمقراطي البرلماني الذي تم تبنيه في لبنان هاجس التوازن بين المسيحيين والمسلمين، فولدت ال “الستة وستة مكرر” ومعها ولد مرض الطائفية الذي لا شفاء منه، فأصبح لبنان في ظل هذا النظام كياناً مستحيلاً. فقد أسس النظام الطائفي في لبنان لنشوء دولة فاشلة كما يسميها تشومسكي. فاشلة لأن إدارتها العامة تعتمد على طائفة الموظف قبل كفاءته. وليسمح لنا أشد المدافعين عن آلية التعيينات ولجان المقابلات ومعايير الاختيار، فإنه ومع احترامنا لكافة هذه الوسائل الضامنة للكفاءة، فإن القانون لم يكن حاسماً في حال عدم إمكانية تحقيق الستة وستة مكرر، خاصة إذا دَرَجَت العادة أن يُخَصص مركز ما لطائفة محددة. عليه، وُضِعَ لبنان على سكة الفشل منذ يومه الأول بسبب هذا النظام الطائفي، حيث أن إدارة الدولة تعتمد المساومة على الكفاءة احتراماً للطائفية.

ومع الوقت، ازدادت الإدارة العامة ضعفاً. فمن عُيِّنَوا على أساس الكفاءة، وهم كثر في الإدارة العامة حتى يومنا هذا، وُضِعوا بمواجهة عدد متكاثر ممن عينوا بمساومة على الكفاءة، فأصبح تأثير الموظف الكفؤ مخفف نتيجة قلة كفاءة الأفراد الذين يتعامل معهم. ضُعف الكفاءة أدى حتماً إلى سوء الإدارة، وسوء الإدارة أدى إلى التدخل السياسي لحماية الطائفة، وأدى التدخل السياسي لحماية الإنسان غير الكفوء إلى إضعاف القانون وتدمير هيبته ليس فقط أمام تاجر السياسة، وإنما أيضاً في نظر من يُسَموا ب”المواطنين”. وهكذا فقد القانون احترام المواطن له، وأَفرَغَ النظام الطائفي هذا القانون من قيمته لمصلحة القوة المستمدة من الانتماء الطائفي.

لعل أسوأ ما حصل للبنان الحديث هو نظام الدولة السياسي الذي تم تبنيه يوم الاستقلال. فبالرغم من أنه يتمتع بالكياسة والدماثة الفرنسية، فهو لا يعدو كونه نظاماً طائفياً يعزز الانقسام، والتفرقة، والمحاصصة، و”الاستزلام” للطائفة وحكامها. فكيف يمكن لدولة أن تُحكم بثلاثة رؤوس على أساس بدعة الديمقراطية التوافقية؟ ومن أين تأتي برؤية موحدة لدولةٍ كل مسؤول فيها يحمل صورةً للوطن مختلفة عن الآخر؟ وكيف تبني وطن كل زعمائه تجار وكل تجاره زعماء؟ أما كيف تبني وطن بزعماء وأتباع من الشعب جاهزون دائماً لزواج عُرفي على طريقة “مين ما أخد أمي بصير عمي”؟ ما هكذا تُبنى الأوطان. وحتى محاولة فؤاد شهاب لبناء وطن، فهي الأخرى قد اصطدمت بالمحرمات الطائفية التي صمتت يومها على مضض لأن تيار القومية العربية كان أقوى حينها من تيار التسويق الطائفي. حتى ومع ذلك، كان فؤاد شهاب بحاجة إلى آلية دكتاتورية إسمها “المكتب الثاني” وذلك لتطويع ذئب الطائفية الذي لم يقبل يوماً بالأسلوب الشهابي. والدليل على هذا الأمر هو انقضاض الذئب على دولة المؤسسات الناشئة في أول فرصة سُنحت له، عندما لم يقبل شهاب بتعديل الدستور لمصلحته، منهياً بذلك التجربة الوحيدة شبه الناجحة للنظام السياسي الطائفي في لبنان.

إن المحن الخمس هذه هي محن جوهرية تسكن في صلب التكوين الأساسي لفكرة لبنان الدولة. وكونها جوهرية، فإن تغييرها أو استئصالها يرقى إلى أن يكون من المستحيلات. فكيف يمكن أن تغيير الجينات الوراثية لشعب أو لمجموعة شعوب بأكملها؟ وكيف يمكن أن تخلق هوية واحدة لسبعة أمم تسكن في بقعةٍ مساحتها 10452 كلم2 (بمعدل 1500 كلم2 لكل أمة)؟ أم من أين تأتي بمساحة كافية لوطن، أو باقتصاد متكامل ومتوازن ومستدام، أو بشعب متجانس من ناحية القومية أو الدين؟ وكيف يمكن أن تغير جغرافيا الموقع العالق بين البركان الأزلي لصراع الحضارات والقوميات والأديان، وبين جار يرى أنك اغتُصِبتَ منه في غفلةٍ من الزمن؟ وأخيراً، كيف يمكن أن تغير نظاماً طائفياً محاكاً بدهاءٍ شديد بطريقة تؤدي إلى الانهيار التام للدولة والقانون في حال مسست بأحد أسسه؟

إن حصول لبنان من هذه الزاوية هو أمر مستحيل، لأنه لا يمكن لكيانٍ أن يحصل إذا لم تتوفر لديه الجينات الوراثية، والهوية، والمقومات، والموقع، والنظام. ومن هنا يبقى لبنان فكرة في الذهن غير قابلة للتحول إلى واقع، لأن الفكرة في هذه الحالة أقوى من الواقع ومقوماته، وبالتالي سبب الاستحالة. ولكن إذا غامرنا من الناحية الفكرية بمحاولة لوضع رؤية لإمكانية حصول هذا الكيان واستقامته في حالةٍ من السلام والاستقرار والازدهار، فإنه يمكننا الخروج بخمسة خيارات رئيسية:

a. الإبقاء على النظام الحالي مع احترام تطبيقه

تطبيق النظام الحالي بعد تنقيح الدستور وتحديث القوانين. والتشديد هنا على كلمة تطبيق، لأن الإشكالية الكبرى التي عانى ويعاني منها لبنان هي عدم احترام المؤتمنين على الدستور والقانون لهذا الدستور والقانون. في إطار هذا الخيار، لبنان ليس بحاجة إلى دستور جديد وإنما إلى كرامة كافية لدى السياسيين بأن يحترموا هذا الدستور أولاً ويطبقوه ثانياً دون إدخال حساباتهم الضيقة التي تخدم مصلحتهم الشخصية أولاً والطائفية ثانياً دون الوطن والمواطن. علماً أن الكثير من هؤلاء لا يستشرف من طائفته – ومن دينه إلى حد ما – إلا ما يتناسب مع اللحن الذي يدور في الخُلد. وعليه، لا داعٍ لكل الطروحات والفذلكات القانونية والتحليلية والاستشرافية، فالمشكلة إلى حدٍ كبير ليست في النص وإنما في احترامه وتطبيقه.

لكن، وبالرغم من أن هذا الخيار يظهر على أنه الأقل تعقيداً، لأننا نعتمد على نظامٍ موجود وبالتالي لا يتطلب مؤتمراً تأسيسياً جديداً، فإنه بالمقابل يفرض استبدال الطبقة السياسية وجميع أتباعها في الإدارة والقضاء والأمن بطبقة سياسية جديدة مثقفة، متنورة وكفؤة، تضع الوطن أولاً وأخيراً لأن الوطن للمواطن أما الدين فهو لله؛ هذا اللهم إذا أردنا أن ننشئ دولةً مدنية!

b. تقسيم لبنان إلى كانتونات قومية أو دينية أو مدنية

لا يفتأ هذا الخيار بالظهور دائماً كلما تم الحديث عن محن لبنان. ففي الكثير من الأحيان يبدو أن هذا هو الحل الأمثل الذي يشبع شهوة السياسيين للرئاسة من ناحية، ويمنح كل طائفة جمهوريتها الصغيرة المستقلة وبالتالي رضى الله بالانتصار له، ويمتص الاحتقان الطائفي الذي يتم استغلاله من قبل السياسيين كلما “دق الكوز بالجرة”. وبالرغم من أن هذا الخيار مغري لأنه يضع كل طائفة في بيتها، لكنه بالمقابل يُنتِج مجموعة من التحديات الكبرى. فالتقسيم يعني انتهاء لبنان ككيان ويفتح المجال لنشوء مجتمعات متصارعة فيها من الصداع للمجتمع الدولي أكثر بكثير من الصداع الذي كان يسببه لها لبنان عندما كان كياناً واحداً. فمن الناحية السياسية، تشكل هذه الكانتونات الصغيرة مدخل للاعبين الدوليين الذين لديهم أجندات في الشرق الأوسط وبخاصة على الحدود مع إسرائيل. ومن الناحية الاقتصادية، فإن هذه الكانتونات لن يكون لديها المساحة الكافية لإنشاء اقتصاد متكامل مما يزيد من إمكانية ازدياد الفقر والعوز، وبالتالي حتمية التصارع على الموارد مع الكانتونات الملاصقة. أما من الناحية الاجتماعية، فإن التطور الديموغرافي في كانتون محدد مقارنة بكانتون آخر سيزيد الحاجة إلى مساحة أرض أكبر من مساحة الكانتون الطائفي، وبالتالي حتمية الصراع من جديد.

ليست هذه التقديرات أعلاه سوى غيض من فيض حول نتائج اعتماد التقسيم كحل لمحن لبنان، أقلها هو أن لبنان لن يبقى في الوجود بعد التقسيم.

c. تغيير نظام الحكم وإلغاء الطائفية السياسية

مما لا شك فيه أنه هناك الكثير ممن يعتقدون أنه لولا النظام البرلماني الطائفي الذي تبناه من أنشأ الدولة اللبنانية لما كان هناك من إمكانية لنشوء هذه لدولة. فلا المسيحيين ولا المسلمين بمختلف مذاهبهم كانوا ليرضوا بنظام سياسي لا يعتمد على الشراكة في الحكم. وبالرغم من أن هذا النظام هو ديمقراطي دستورياً، فإنه لم يكن ليُطَبَّق بالحد الأدنى إلا بعد قياس كل استراتيجية وقرار في الدولة بميزان الطائفية. فإذا كانت هذه الاستراتيجية أو هذا القرار مناسباً لأكثرية الطوائف يتم اعتماده، أما إذا لم يكن مناسباً لأكثرية الطوائف وخاصة المؤثرة منها، فإن هذه الاستراتيجيات والقرارات تحفظ في أدراج النسيان. ونحن هنا لا نتكلم عن طائفة مؤثرة واحدة، فقوة التأثير كانت تَنَقَّلَت من طائفة إلى أخرى خلال تاريخ الدولة اللبنانية. فمن المسيحيين الموارنة، إلى السنة، ومؤخراً إلى الشيعة، كان النظام رهينة المصالح الطائفية في معظم الأوقات. لهذا السبب لم تكن الدولة اللبنانية يوماً دولةً تضع المصلحة الوطنية أولاً، بل كانت مصلحة الطائفة (والمصلحة الشخصية) تعطى الأولوية الكبرى ومن ثم يأتي الوطن. ولعل هذا الواقع مرتبط أيضاً إلى حد كبير بالارتباط الديني والقومي للطوائف اللبنانية التي يفرض عليها التماهي مع الأجندات الخارجية لمصلحة الطائفة وعلى حساب الوطن.

من هنا، فإن إلغاء الطائفية السياسية والنظام الطائفي برمته يعتبر أحد الخيارات الممكنة للسلام والاستقرار في لبنان، لكنه في وقتنا هذا بالذات يشكل مصدر خوف للمسيحيين بشكل عام، والموارنة بشكل خاص. فإن إلغاء الطائفية السياسية يعني أنه يمكن لأي شخص يحمل الجنسية اللبنانية أن يترشح لأحد الرئاسات الثلاث ولأي مركز نيابي، وزاري، إداري، عسكري، أو قضائي. وبالرغم من أن هذا الخيار سيدغدغ أحلام أنصار الدولة المدنية في لبنان من مثقفين ومتنورين، فإنه بالمقابل، ونظراً للتفوق العددي للمسلمين، فإن أكثرية المسيحيين سيرون في هذا الخيار استحواذ تام للسلطة من قبل المسلمين وانتهاء للميثاق الوطني والشراكة في الحكم. لذلك سيكون من الصعب تمرير هذا الخيار تحت أي شعار أتى، حتى ولو حصل على دعم أنصار المدنية والعلمانية.

d. ضم لبنان إلى سوريا

لا شك أن فترة الوصاية السورية على لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى العام 2005 لم تكن الأمثل من الناحية السياسية، وهي على الصعيد الاقتصادي (وبمشاركة الاكثرية الساحقة ممن هم في الحكم اليوم) كانت تؤسس للحالة الاقتصادية والمالية المهترئة التي وصلت إليها الدولة اللبنانية اليوم ومعها جميع اللبنانيين المقيمين. ولكن بشكل عام فإنه لا يمكن تجاهل أن هذه الفترة شهدت استقراراً مالياً وازدهاراً ظاهرياً في معظم القطاعات. فقد كان اللبنانيون يصرفون ما استدانته الدولة، وسرقه السياسيون وعصابات الأعمال، وأكل فتاته معظم الشعب. وشهدت هذه الفترة أيضاً استقراراً أمنياً متيناً لخوف معظم الجهات السياسية ومقاومي الوجود السوري في لبنان من بطش نظام الوصاية الذي لم يكن يرحم من يرفض الانصياع.

وإذا نظرنا إلى الوضع من هذه الناحية وبشيءٍ من الموضوعية، فإننا نرى أن الأمور بشكل عام كانت ممسوكة من قبل طرف محدد وصي على لبنان. وبالرغم من أن هذا الطرف أمسك الأوضاع بطريقة شبه دكتاتورية تعتمد الترهيب للجميع (وخاصة المعارضين) والترغيب (لمن هو مستعد أن يبيع أباه في سوق النخاسة)، فإن الظروف العامة كانت مستقرة إلى حد ما، وعلى الأقل كانت أفضل بكثير من الوضع الذي وصل إليه لبنان اليوم. وهذا الأمر إن دل على شيء، فإنه يؤكد أن اللبنانيين غير قادرين أن يحكموا أنفسهم وهم دائماً ما يحتاجون إلى تدخل خارجي لإدارة اختلافاتهم وخلافاتهم. ويعود السبب في هذا الوضع إلى المحن الخمس التي يعاني منها لبنان والتي تضع الجميع في موقع الأقليات وبالتالي تعزز الخوف من الآخر، ولا تسمح بتطبيق الدستور والقوانين، وهي حتماً تؤدي إلى عدم نضوج الممارسة السياسية والتخطيط الاقتصادي وأي محاولة للتطوير، لأن هذه الأمور دائماً ما تقيَّم من وجهة نظر طائفية.

لذلك، فإن خيار ضم لبنان إلى الدولة السورية، أو جعله المحافظة الخامسة عشر يبقى مفتوحاً، خاصةً مع ما يشهده الشرق الأوسط اليوم من إعادة توزيع الثروات، ومحاولة اقتطاع أجزاء من سوريا لصالح تركيا وإسرائيل. وبالرغم من أن هذا الخيار ليس خياراً شعبياً، فإنه على الأقل يؤسس لوجود رأس واحد، ورؤية واحدة، وقرار واحد، وحكم واحد، وسياسة واحدة، واقتصاد واحد، وقضاء واحد، وقوة عسكرية واحدة، ورؤية واحدة بغض النظر عن جَودَتِهِم. كذلك فإنه ينهي حال العهر السياسي والفساد الاقتصادي التي سيبقى يعاني منه لبنان في حال استمرار النظام الحالي ومعه بدعة الديمقراطية التوافقية والمحاصصة.

e. اعتماد نظام الوصاية الخارجية

لا شك أن التنوع في لبنان هو من الخصائص الأساسية التي تميز هذه البقعة من الأرض. فمن طبيعة لا تشبه أبداً الجغرافيا التي تحيط بها، وموقع جغرافي يعتبر ممراً ملزماً بين الشرق والغرب، وتنوع ديني ومذهبي لا وجود له في أي بلد عربي آخر، تمايز لبنان عن محيطه على مر التاريخ. ولكن هذا التنوع هو نقمة بقدر ما هو نعمة. فأكثرية البشر يرون في التنوع اختلاف ومادة للتنازع، وقد دفع لبنان ثمن هذا الأمر. فبالرغم من الإعلام والتسويق لفكرة العيش المشترك، فإن سياسيي لبنان لم يروا في التنوع نِعمَة، لا بل استغلوه للتفرقة بين اللبنانيين، وللأسف فإن السواد الأعظم من الشعب اشترى هذا المنتج ومازال يدفع ثمنه حتى اليوم.

عندما قال القديس يوحنا بولس الثاني أن “لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة”، هو كان يعرف جيداً ماذا يقول. لقد رأى هذا الإنسان القديس أنه لا يمكن للبنان أن يحصل كدولة، وأن إمكانية بقائه ممكنة فقط إذا كان لديه طابع خاص يميزه عن محيطه باعترافٍ دولي. فأن يكون لبنان رسالة، يعني أنه يجب أن يكون مركزاً لكل الحضارات الإنسانية لتأتي وتتعلم منه رسالة التآخي والتعايش والسلام. وهو لذلك يجب أن يكون تحت وصاية دولية تماماً مثلما يكون الإرث الإنساني العالمي تحت وصاية اليونيسكو.

إن خيار الوصاية الدولية إذا طبق بصدق، يمكن أن يعزل لبنان عن النزاعات الأبدية التي تحيط به، ويضعه تحت الحماية الدولية كوجهة حج للحضارة الإنسانية. فطالما بقي النظام الطائفي، والديمقراطية التوافقية أساس الممارسة السياسية والإدارية والاقتصادية بدل القانون، سيبقى لبنان عُرضَةً للانتهاك. فلبنان كالمرأة الجميلة، جذاب بكل المعايير، والخارج يحب الجمال ولا يتوانى عن الحصول عليه، والداخل للأسف مستعد لبيع هذا الجمال لمن يدفع الرقم المطلوب. من هنا فإن الوصاية الدولية هي أيضاً أحد الخيارات التي يمكن أن تساعد على حصول هذا اللبنان الذي تحمله العقول والقلوب في صميمها.

ويبقى لبنان الفكرة أكمل وأجمل من لبنان الواقع. هذا الكيان الذي يتأرجح بين الولادة والعدم، ولسببٍ ما، يأبى أن يموت أو أن يندحر كما فعلت حضارة الإنكا. الثابت أنه هناك بقعة على الأرض إسمها لبنان، والثابت أن هذا اللبنان ممدوح من الله في كتابه المقدس. والثابت أيضاً أن لبنان لم يكن يوما دولةً ولو أن بعض مناطقه كانت تابعة لدول أخرى، أو كانت موزعة على أمراء وإقطاعيين، والثابت أنه منذ أيام المتصرفية، مروراً بلبنان الكبير، وحتى الاستقلال، لم يكن لبنان الدولة مطواعاً. كذلك، لم تسمح له محنه الخمس بالتحول إلى دولة نظامية بالمفهوم العالمي لكلمة دولة، فغدى دولة فاشلة بكافة المعايير. لبنان الفكرة ليس بحاجة إلى أن يُفهم، فهو كالمعيار تقبله كما هو وبدون مناقشة، أما لبنان الدولة فهو أعقد بكثير من أن يُفهَم، حتى أنه يشابه الفيزياء النظرية حيث كل شيءٍ ممكن ولكنه غيرُ مُثَبَّت.

لا بد أن من سعى لإقامة المتصرفية، ومن بعدها لبنان الكبير كان لديه أسبابه الظرفية وقتها، وكانت هذه الأسباب متعلقة بشكل خاص بالوجود المسيحي (وخاصة الماروني) وأمنه في لبنان. واليوم، بعد ما يقارب ال 160 عاماً على إنشاء المتصرفية، و100 عام على إنشاء لبنان الكبير، ما زال الوجود المسيحي وأمنه هو هو، لا بل ازداد ضعفاً مع ضعف القيم الدينية في أوروبا (التي كانت تدعم هذا الكيان)، وتضاءُل اهتمامها بالأجندة المسيحية مع تركيزها على العلمانية. كذلك فإن من سعى لإقامة دولة لبنان (المستقلة شكلياً) كانت لديه أسبابه الظرفية وقتها أيضاً. ولم يخرج الوجود المسيحي من إطار الترتيب لإقامة هذه الدولة، لكنها (أي هذه الدولة) في هذه المرة أتت على خلفية اتفاق دولي وتوافق داخلي تحت شعار تقاسم السلطات بين الطوائف، وبالذات بين الأرستقراطيين والإقطاعيين، والتجار، والأغنياء، وحفنة من المثقفين من الطوائف الكبرى، وبحسب دستور وقانون مستوحى من أم فرنسية حنون، وسلطنةٍ عثمانية مندحرة. هذه الدولة التي أُنشِأت ببذورٍ طائفية، نمت لتشكل أعرق نظام طائفي فاسد في تاريخ الدول القديمة والحديثة. وهي لم تخرج يوماً من المنطق الذي سمح لها بأن تكون، ألا وهو منطق المحاصصة الطائفية التي توزع خيرها على المحظيين من كبار القوم في كل طائفة، وهم بدورهم يَمُنُّونَ بفتاتهم على شعبٍ عِلمُهُ بعلو القمم، وثقافته على مستوى البحر. وأتت الطامة الكبرى التي أوجدت طبقة أغنياء الفساد من الشعب، فأمعنت تشويهاً بنظامٍ كان أصلاً مبني على مصالح شخصية، وليس على عِزَّةٍ وطنية وشعور بالانتماء إلى وطن.

لبنان الدولة ولد مستحيلاً وسيبقى مستحيلاً طالما أن محنه الخمس حاضرة. وما طائر الفينيق الذي يتفاخر به اللبنانيون إلا تأكيداً على قبولهم بهذا الواقع المرير. وكأنه اعتراف ضمني بأننا غير قادرين على بناء وطن والحفاظ عليه، بل لا بد لهذا الكيان الذي يشبه الوطن أن يحترق بشكل دوري لنحقق ذاتنا. أي تفكير منحرف هذا، أن يعيش الإنسان في دوامة من الدمار والعمار والدمار من جديد فقط لأنه غير قادر على أن يُوجِد وطناً للجميع وأن يحافظ عليه؟ هذا بالفعل أمر غريب، وكأن طائر الفينيق أصبح لنا كآلية دفاع (تحمُّل) نفسية Defense Mechanism، نلجأ إليها بعد كل حرب أهلية، وكل اجتياح إسرائيلي، وكل زمن وصاية، وكل محاولة ثورة، وكل انفجار عظيم لنبرر ما نمر به من مأساة ونقنع أنفسنا أن عفى الله عن ما مضى، فهيَّا لننهض ونزيل الغبار عنا، ونمضي من جديد. إن لفي هذا الكثير من العظمة الفلسفية، والقليل من المنطق الإنساني القويم. كنا لنفهم هذا التعلق بطائر أسطوري لو أن الوطن مبني على خط الزلازل والبراكين مثل اليابان والفيليبين. ولكن يبدو أن تعلقنا بهذا الطائر أصبح وسيلتنا الوحيدة لنتحمَّل العيش في مكانٍ مستحيل، نبرر من خلاله معرفتنا الواقعة بأننا مهما سعينا ونظمنا وحاولنا أن نبني وطن، فإنه لن يمضي وقت طويل قبل أن نحترق من جديد ونقوم لنبدأ دوامة الحلم المستحيل مرة أخرى.

شارل س. صليبا
Positive Thinker
Organizational, Leadership & HR Expert

Copyright – Charles Saliba © 2020