Articles

إدارة الأداء في القطاع العام اللبناني: حقّ وواجب لابدّ منه

مقالة شارل صليبا في “حديث المالية” – النشرة الداخلية لوزارة المالية – آذار ٢٠١٩ – العدد ٦٧

http://www.institutdesfinances.gov.lb/publications/

اكتسب موضوع إدارة الأداء زخماً قياسياً في العقد الماضي وخصوصاً مع توالي الأزمات الاقتصادية والمالية، وازدياد التساؤلات حول الحوكمة، والإدارة الرشيدة، وحماية حقوق المساهمين، ودور مجالس الادارة، وغيرها. وركز هذا الأمر الانتباه على أهمية مراقبة مؤشرات الأداء المؤسسي والبشري بشكل مستمر، وذلك بهدف تدارك التحديات والمشاكل المؤسساتية والبشرية قبل أن تتفاقم وتخرج عن السيطرة. ولا تقلّ إدارة الأداء المؤسسي والبشري في القطاع العام أهميةً عمّا هي في القطاع الخاص، لا بل تتخطاها أهمية للأسباب الآتية: أولاً، إن القطاع العام مؤتمن من قبل المواطنين على إدارة مقومات الدولة ومواردها، وبالتالي فهو مسؤول تجاه كل المواطنين دافعي الضرائب، تماماً كمسؤولية الإدارة في أي شركة خاصة تجاه المساهمين وأصحاب الحقوق. ثانياً، إن التطور الحاصل في نمط الحياة المدنية ومتطلباتها، يفرض على الإدارة العامة العمل على تحسين خدماتها وتبسيطها وتفعيلها، لكي تُوائم حاجات المواطن وتستجيب لمقومات نجاح الاقتصاد وازدهار المجتمع. وبالتالي فإن العمل على التحسين يتطلب قياس الأداء وإدارته بشكل مستمر. ثالثاً، إن تبلور الشراكة بين القطاعين العام والخاص يفرض وجود نظام لتقييم الأداء المؤسسي والبشري في كلا القطاعين، وذلك للتمكن من قياس التقدم باتجاه تحقيق أهداف هذه الشراكة، بالإضافة إلى تعزيز الشفافية والمساءلة وضمان التحسين المستمر بين الأطراف المعنية كافة. وفي هذا الإطار، فإن إدارة الأداء أصبحت من الشروط الأساسية لنجاح شراكة القطاعين العام والخاص. رابعاً، إن التطور الحاصل في علم الإدارة العامة، يركز على أهمية أداء الإدارات والمؤسسات العامة والوزارت وذلك لارتباطها المباشر بنجاح استراتيجيات الدولة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتي بنجاحها تؤدي إلى الاستقرار والأمان. خامساً، أصبح أداء الحكومات ومؤسساتها في صلب قرارات المؤسسات الدولية والهيئات المانحة لناحية تقديم الدعم والمساعدات، مما أكسب موضوع إدارة الأداء المؤسسي والبشري في الدولة بعداً جديداً يفرض إلى حد ما اعتماد أنظمة ومقاربات لقياس الأداء بشكل مستمر.

التحديات
ومع هذا التطور الحاصل، والمرحلة التي يمر بها لبنان اليوم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لا بد من إيلاء موضوع إدارة الأداء المؤسسي والبشري في القطاع العام الأهمية اللازمة، سعياً للارتقاء بالدولة إلى مستوى دولة المؤسسات التي تحرص على الموارد المؤتمنة عليها، وعلى حقوق المواطن، حرص مجالس الإدارة في المؤسسات الخاصة على موارد وحقوق مساهميها. ولكن تطبيق هذه المقاربة في القطاع العام اللبناني لا يخلو من التحديات الناتجة عن العديد من العوامل والتي يجب العمل على معالجتها بالتزامن مع بدء العمل على تطوير ووضع أنظمة إدارة الأداء المؤسسي والبشري في الإدارة العامة. ومن أهم التحديات التي تبرز في هذا الإطار: أولاً، توفير الدعم السياسي والإداري لمفهوم تقييم وإدارة الأداء في الإدارة العامة، مع كل ما يندرج معه من استثمار في وضع الأنظمة، والتواصل، وإدارة التغيير، والتدريب، والأهم في تطبيق النتائج بهدف المعالجة والتحسين، والمساءلة والمحاسبة، حيث ينطبق. ثانياً، خلق ثقافة الأداء والتحسين المستمر في ذهنية القطاع العام بكليته ابتداءً من الوزراء، إلى المديرين العامين، والمستخدمين من الفئات كافة، وبناء صورة إيجابية وقبول لفكرة تقييم الأداء كوسيلة لتطوير الأفراد ومكافأة المميزين منهم، وأخذ المبادرة لتطبيق هذه المفاهيم. ثالثاً، توافر الموارد المالية للاستثمار في بناء مقومات الأداء المؤسسي والبشري في الدولة بشكل شمولي، والتي من دونها لا يمكن العمل على قياس الأداء وتطويره بشكل مستمر. رابعاً، توافر الدعم الاستشاري التقني لتصميم وتطوير أنظمة إدارة أداء مؤسسي وبشري ملائمة، تتناسب مع حاجة الإدارات العامة في لبنان من دون المبالغة في التصميم أو التعقيد. خامساً، المثابرة في التطبيق، وإعلان النتائج بشفافية، وعدم التراخي في الحرص على التطبيق كما يحصل في الكثير من المبادرات والأنظمة التي توضع موضع التنفيذ في الإدارة العامة، وحتى على مستوى بعض القوانين في لبنان.

مقاربة متكاملة
من هنا، وانطلاقاً من أهمية إدارة الأداء المؤسسي والبشري بشكل عام، وعلاقته المباشرة بتحسين أداء القطاع العام اللبناني بشكل خاص، فإن العمل على هذا الموضوع يجب ألاّ ينطلق إلاّ من خلال مقاربة متكاملة تتعامل مع تقييم الأداء من منظار شمولي. وتندرج هذه المقاربة تماماً في نموذج صليبا لإدارة الأداء الشامل Holistic Performance Management System الذي طُوِرَ بناءً على خبرة عملية في تصميم وتنفيذ العديد من أنظمة إدارة الأداء في القطاعين العام والخاص، مع مواءمة لأفضل الممارسات العالمية في إدارة الأداء. ويعتمد هذا النموذج على فرضية أن الأداء هو فكرة شاملة وغير مجتزأة وبالتالي يجب التعامل معه على هذا الأساس، فلا يمكن تحقيق الأداء الشامل إلا إذا توفرت كافة مقوماته. اما إذا كان أحد هذه المقومات ناقصاً، فمن الطبيعي أن يكون الأداء أيضاً ناقصاً وليس شاملاً. ويشير النموذج إلى أن الأداء النظري الشامل يتطلب توافر كل من مقومات الأدء بنسبة مئة في المئة. أي أنه إذا أردنا الحصول على أداء مؤسسي يساوي مئة في المئة، يجب أن يكون أداء كل من الرؤية والأهداف، وأداء الموارد البشرية، وأداء البيئة التنظيمية، وأداء الخدمات والسلع، وأداء الموارد المادية، بنسبة مئة في المئة. أما إذا كان أداء واحد أو أكثر من هذه مقومات أقل من هذه النسبة، فإن الأداء لا يمكن أن يكون كاملا Sub-optimal Performance. هذا من الناحية النظرية، ولكن من الناحية العملية، فإن نموذج الأداء الشامل يتوقع أن تعمل إدارة المنظمة المعنية على تحقيق أعلى قدر من الأداء الممكن لكل من المقومات، حتى يصبح أداء المؤسسة أقرب ما يكون إلى مستوى الأداء النظري الشامل أي أداء مؤسسي بنسبة مئة في المئة. بالإضافة إلى ذلك، فإن النموذج يرسم العلاقة بين كافة مقومات الأداء الخمسة مشددا على ارتكاز بعضها على البعض الآخر. فماذا ينفع إذا كانت لدينا رؤية وأهداف واضحة بنسبة مئة في المئة ولم يكن لدينا الموارد البشرية الكفيّة والخبيرة للقيام بالعمل؟ وبالمنطق نفسه، ماذا ينفع إذا كانت لدينا الموارد المادية بنسبة مئة في المئة، ولم تكن لدينا بيئة تنظيمية إيجابية أو رؤية وأهداف ناقصة؟

مقومات الأداء
يعرّف نموذج إدارة الأداء الشامل مقومات الأداء بخمسة محاور هي الآتية:
١. الرؤية والأهداف: ويعتبر توافر هذا المحور أساسي من أجل التمكن من قياس وإدارة الأداء المؤسسي والبشري. وهو يتطلب وجود رؤية، وأهداف، واستراتيجية وخطة عمل كاملة الوضوح ومفصلة على كافة المستويات
التنظيمية والإدارية.
٢. الموارد البشرية: يؤكد هذا المحور أن العنصر البشري أساسي في معادلة الأداء وهو يجب أن يكون متوفراً من ناحية العدد والمعرفة، والكفاءة، والسلوك، والإدارة الناجعة.
٣. البيئة التنظيمية: يوفر هذا المحور الإطار الفكري، والنفسي، والعاطفي الذي يحتضن الكوادر البشرية ويميز ذهنيتهم التنظيمية من ناحية، ويعكس الصورة أو العلامة الفارقة للمؤسسة في السوق ومع الموردين والأطراف المعنية، من ناحية أخرى. وتوصِّف البيئة التنظيمية علاقة الزمالة بين كافة الموظفين، والعلاقة بين المسؤولين وفريقهم، ومقاربة التعامل بين المؤسسة ومستخدميها.
٤. الخدمات والسلع: على أهمية ما سبق، فإن الأداء المؤسسي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تصميم وتقديم خدمات وسلع مميزة للسوق، إن كان لناحية النوعية، أو السعر، أو التجاوب مع متطلبات الزبائن، وغيرها.
٥. الموارد المادية: يؤكد هذا المحور على أن توافر الموارد المادية من أموال واستثمارات، وتجهيزات مكتبية، ووسائل اتصال، ومكاتب، وفروع هو أيضاً أمر أساسي في تحقيق الأداء المؤسسي الشامل.

العبرة في التطبيق
ومع التأكيد على أهمية مقاربة إدارة الأداء في القطاع العام بشكل شمولي، كما يوضحه نموذج إدارة الأداء الشامل Holistic Performance Management System يبقى موضوع التطبيق، هو الأهم. فتوافر النية لدعم هذا النوع من الممارسة المؤسساتية في القطاع العام، والاستعداد للمبادرة إلى تطبيقه والأخذ بنتائجه، بغض النظر عن التحديات الكامنة في الذهنيات التي تقاوم التغيير الإيجابي، وتوافر الدعم المادي والاستشاري لتطوير أنظمة إدارة أداء شاملة تتناسب مع حاجتنا في القطاع العام اللبناني، هي العوامل الأساسية لتحقيق رؤية متكاملة في ما يتعلق بإدارة الأداء المؤسسي في القطاع العام وفي إدارات الدولة ومؤسساتها كافة. أما من أين نبدأ، فالخطط متوافرة، والموضوع يكتسب زخما أكبر وأكبر مع الوقت، وخصوصاً مع تنامي المساءلة على الصعد كافة، وربط الأداء المؤسسي والبشري مباشرةً بالمبادرات المحلية والدولية لدعم التطور الإداري في لبنان بشكل عام، وفي القطاع العام، بكل مؤسساته، بشكل خاص. إدارة الأداء في القطاع العام اللبناني، كما يشير عنوان هذه المقالة، هو حق لكل موظف للتمييز، وحق لكل مواطن للمساءلة، وحق للمؤسسات للمحاسبة، وهو كذلك واجب على كل موظف لتقديم الأداء المتميز، وواجب على كل مواطن لاحترام القانون والالتزام بإجراءاته، وواجب على المؤسسات لتقييم ذاتها بهدف التطوير والتقدم المستمر.