Articles

كلنا شركاء في الجريمة

لو كان للبنان لسان لتكلم قائلاً:”توقفوا عن الخداع، واخجلوا من أنفسكم، كلكم شركاء في الجريمة؛ الفاعل والشاهد والمفعول به”. كم هو على حق هذا اللبنان، فلو بقي لدينا أصلاً ذرة من الخجل لتوقفنا على الأقل عن المجاهرة برفضنا لخطيئةٍ نرتكبها كل يوم. لو كان لدينا ذرة من الحياء لكنا صمتنا ودخلنا إلى مخادعنا لنستغفر الله ولبنان ولنطلب الهداية إلى نعمة الفكر القويم والصراط المستقيم من جديد. كلنا نتكلم عن الفساد بدون خجل. نتكلم عنه ونرفضه ونلعنه، وكأنه هبط علينا هذا الفساد من حيث لا نعلم، أو كأن الأرض قد انشقت وبذلته وباءً من أعماق الجحيم. حتى إنه قد وصلت بنا قلة الحياء أن نتحدث عن الفساد بصفة المجهول، وكأن الفاعل غير معروف أو مكتوم القيد. وتأتي قمة وقاحتنا عندما يسمى الفساد بأسمائه ولكن يد العدالة تطال الفاسد الغبي الذي كسر القانون – لأنها بالقانون تحكم – ولكنها لا تطال الفاسد الذكي الذي سخر القانون لمصلحته أو تحايل عليه ليظهر للناس وللعدالة أنه غير فاسدٍ، وما أكثر هذا الأخير.

عن أي فساد نتكلم؟ فساد الفعل أم فساد الفكر؟ فساد المسؤول أم فساد الشعب؟

لا شك أننا نعلم في عمق أعماق داخلنا ما هو الجواب، ونمنن النفس بالكلام عن الفعل الفاسد والمسؤول عنه، ولكننا لا نتجرأ على الكلام عن الفكر الفاسد وعن الشعب الذي يستسيغه. فلنتوقف عن التحايل أيها الأصدقاء، فكلنا يعرف الحقيقة، ولكننا ندرك أنه بالرغم من أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، فإن غرورنا لا يسمح  لنا أن نقول “نعم، نحن أيضاً فاسدين”. لقد أقنع اللبنانيون أنفسهم أن المسؤول هو الفاسد، وأن الفساد متغلل في الدولة ومؤسساتها فقط، ولكنهم يتجاهلون – أو يجهلون، لا أعلم – أن الفساد مستشري في المجتمع أكثر منه في الدولة ومؤسساتها، مع أن هذه المؤسسات هي أيضاً جزء من المجتمع. فلنتوقف للحظة وننظر جيداً أيها المواطنون اللبنانيون؛ لننظر بموضوعية، وعقلانية، بعيداً عن تهيج المشاعر، وبدون استنهاض الشرف الرفيع، وبدون تعميم ما نقوله، مع أن هذا الواقع ينطبق على أكثر من الكثير بقليل.

أليس الفساد مستشر في مدارسنا؟! فمن منكم لم يشتر كتاباً أوكتباً لم يستخدم فيها أولاده إلا صفحات لا تتجاوز عدد أصابع اليد، أو هنداماً مدرسياً لا يرتق سعره الخيالي إلى نوعيته المشينة؟

أليس الفساد مستشر في مستشفياتنا وأطبائنا؟! فمن منكم لم يمر بخبرة “ما في سرير ضمان ولا وزارة” وفجأة بعد اتصال أو إثنين تصبح المستشفى كلها على حسابك؟ ومن منكم لم يزر طبيب المواعيد التائهة حيث تصل على الموعد وتدخل إلى العيادة بعد ساعتين أو أكثر، دونما أي اعتذار أو شعور بالذنب، وتخرج بعد خمس دقائق فقط لتسدد 30  ألف ليرة عن كل دقيقة.

أليس الفساد مستشر في متاجرنا؟! فمن منكم لم يدخل إلى أهم المتاجر وشاهد هضاب البضائع المعروضة بأبخس الأسعار، ليقلبها بين يديه ويكتشف أن سبب سعرها الهابط – كأخلاق متجرها – هو أن تاريخ صلاحيتها ينتهي بعد أسبوع أو شهر على الأكثر. صفقات يشتريها هؤلاء من تجار العالم ليطعموها لأولادنا؛ ونتسائل، من أين يأتي مرض السرطان؟

أليس الفساد مستشر في مصارفنا؟! فمن منكم لم يسمع بسمسرات مدير فرع من هنا وبترتيبة بيع عقار لقطة لقريب المدير من هناك، أو بملف تسليف بهدف توسيع عمل انتهى وديعة دسمة في حساب العميل المهم، أو قرض سكني مدعوم لشراء شقة بمليون دولار؟!

أليس الفساد مستشر في سياحتنا؟! فمن منكم لم يدخل إلى مطعم عليه القدر والقيمة، ليخرج منه بطعام أقل من القدر وأقل من القيمة؟ ومن منكم لم يذهب إلى فندق، أو مركز احتفالات، أو مسبح، أو مهرجان دولي ولم يلحظ أن خادم الموقف، والنادل، وموظف الاستقبال يتعاملون معه بفوقية تشعره أنه هو الخادم، والنادل، وموظف الاستقبال وهم الزبائن المهمين؟

أليس الفساد مستشر في مهنيينا؟! فمن منكم لم يعاني مع السباك، والكهربائي، وميكانيكي السيارات، والبناء، وحداد السيارات؟ من منكم لم يشتر قطعة غيار لسيارته على أنها الأصلية واكتشف بعد أن تعطلت السيارة في مدة أسبوع أن القطعة غير أصلية، أو أسوأ من ذلك، أن الميكانيكي لم يستبدل القطعة القديمة بالرغم من أنه قال أنه قد فعل؟

أليس الفساد مستشر في المواطن ككل؟! فمن منكم لم ير سيارة أجرة أو دراجة نارية أو سيارة مدنية لا تتوقف على الإشارة الحمراء  أو تسير بعكس اتجاه السير؟ ومن منكم لم ير سيارة أمامه يرمي من فيها الأوساخ من النافذة وكأنه يبذر القمح في الحقول؟ ومن منكم لم ير أب أو أم يضعون طفلهم في حضنهم أو يسمحون لهم بالخروج من فتحة السقف وهم يقودون؟ ومن منكم لم ير مواطن يهدد شرطي بأنه “لا يعرف مع من يتكلم” دون خجل؟

أليس الفساد مستشر في مجتمعنا؟! فمن منكم لم يلاحظ مستوى الارتفاع الجنوني في حالات الطلاق؟ ومن منكم لم يسمع بأهل يعملون من الفجر إلى النجر ليؤمنوا لأولادهم الحياة الكريمة ولكنهم انتهوا بأنهم ربحوا الرزق وخسروا الأولاد؟ من منكم لم يسمع بحفلات الطلاق التي تقام رقصاً على جثة العائلة المدمرة والأولاد الأبرياء الذين لم يصلو إلى عامهم الأول بعد، وكله بسبب سيارة من هنا أو حقيبة من هناك أو كلمة من هنا أو وسوسة من هناك.

هذا غيض من فيض، ولا يفرح من لم نذكرهم أعلاه، لعل من بهم أكثر فساداً. فهل نجرؤ أن نتكلم بعد الآن عن السياسي أو المسؤول في الدولة؟ إن هؤلاء يبدون أبرياء أمام الفساد الذي نسببه لبعضنا البعض. خسئنا.

المشكلة أيها اللبنانيون أكبر بكثير مما نتصور. هي ليست قصة مسؤول فاسد من هنا أو موظف فاسد من هناك؛ هي ليست مسألة تحديث قانون من هنا أو تطبيق قانون من هناك؛ كما وأنها ليست مسألة رواتب قليلة من هنا أو وضع اقتصادي متردي من هناك. المشكلة أيها اللبنانيون هي ليست بالفعل الفاسد، وإنما بالفكر الفاسد. نعم، المشكلة هي أن تفكيرنا أصبح فاسداً، جميعنا ودون استثناء. لقد اعتدنا أن نرى الفساد بأعيننا كل يوم، وأن نفعل الفساد بأيدينا كل يوم حتى إننا أصبحنا نجده أمراً طبيعياً، بالرغم من أن عمق اللاوعي لدينا يتأوه صارخاً أن ما نراه وما نفعله خاطئ، خاطئ، خاطئ! الأسوأ، لا بل قمة السوء هي أننا حولنا فكرة الفساد في ذهننا الى “كفاءة”، وهنا الطامة الكبرى. صار الفساد في ممارساتنا اليومية متوقع وطبيعي، وأصبحنا نسميه “شطارة”، و”ذكاء”. ألصقنا به صفة إيجابية محببة، فأعمي بصرنا، وأعميت بصيرتنا عن أن الحقيقة هو أن الخطأ خطأ حتى ولو أجمع عليه كل البشر. بهذا صار الفساد في فكرنا أمر جيد ومرغوب ومقبول، لا بل هو كفاءة حياتية ومهنية وشخصية يجب أن نسعى إلى عُلاها إذا أردنا أن نتقدم ونزدهر في هذا البلد.

قال لي أحد الأصدقاء في يوم من الأيام أن مشكلتنا الكبرى هي أننا تقبلنا وتأقلمنا مع الفساد لمبررات، وإن كانت منطقية، فهي في كل الأحوال والأوقات تبقى لا أخلاقية. تقبلنا أنه من الطبيعي أن نصمت عندما يتصرف خادم الموقف معنا بفوقية، خوفاً من أن يعالج غضبه بسيارتنا؛ تقبلنا أن نصمت عندما يتصرف معنا موظف الاستقبال في المستشفى أو الفندق بازدراء، خوفاً من أن تختفي الأسرة أو أن تمتلئ الغرف؛ تقبلنا أن ننتظر لساعتين عند الطبيب، خوفاً من أن لا يقع غضبه علينا لاعتقاده أنه ولي صحتنا. تقبلنا أن نتأقلم مع كل شيء، وكله تحت شعار “مش محرزة وجع راسي” أو “شو أنا بدي صلح البلد” أو “ما بقى إلي جلد أعمل مشاكل مع كل الناس”.

أي فساد نريد أن نعالج؟ الفساد ليس في الدولة أيها اللبنانيون، الفساد في عقولنا وهو من أصعب أنواع السرطانات المنتشرة في المجتمعات كافةً. فكيف تعالج شعباً شعار السواد الأعظم منه هو “شو وقفت عليي”. سامح الله من صنع هذه الدعاية، فبالرغم من أن نواياه كانت سليمة، فإنه قد خلق سابقة في عالم الإعلان تلقاها معظم الشعب اللبناني بداية كطرفة، ومن ثم جعلها نمط حياته اليومي. أن نضحك على طرفة هو أمر طبيعي، وإنما أن تصبح هذه الطرفة نمط حياة، فهو الجنون بحد ذاته. لربما هناك أسباب كثيرة تبرر هذا الجنون، ولكن هناك حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها وهي أننا شعب فقد عقله وأصبح تفكيره فاسداً. عبثاً سنعمل على مكافحة الفساد في الدولة لأن معظم الشعب أصبح فاسداً، ولا يفكر إلا بنفسه. الجميع أصبح مركز الكون، فتوقف التواصل التفاعلي وسيطر التواصل الإنفعالي؛ شكراً لوسائل التواصل اللا إجتماعي! فمن يجب أن تعالج وكيف؟

يجب أن نعالج أنفسنا أولاً؛ وحتى بعد أن ننتهي، يجب أن نعالج أنفسنا ثانياً وثالثاً ورابعاً حتى نشفى ونستعيد فكرنا القويم. يجب أن نعترف أننا كلنا شركاء في الجريمة، وليس المسؤول أو السياسي فقط. يجب أن نعترف الآن ونبدأ العمل، هذا إذا بقي لنا الأمل، والطاقة، والإيمان، والوقت.

والسلام.

شارل س. صليبا – بيروت في ٢٩ أيار، ٢٠١٩