لا شك أن اﻹﺟﺮاءات التخفيفية الأخيرة للتعبئة العامة أدت إلى جوّ من الارتياح في لبنان بشكل عام. فبعد أن كنا نتابع المعركة الشرسة التي قادتها وزارة الصحة بدعم من وزارة الداخلية، أصبحنا على مر الأسابيع الثلاثة الماضية نشاهد تناقص عدد حالات الكورونا في البلد وازدياد حالات الشفاء. وبالرغم من أن خطر الوباء لم يصبح خلفنا بعد، ويجب في هذا الإطار الحفاظ على الإلتزام بإجراءات السلامة وبتوجيهات وزارتي الصحة والداخلية حتى الإنتصار، فإن جزءاً كبيراً من الشعب اللبناني تنفس الصعداء بعد أكثر من شهرين في الحجر. وهنا لا بد أن نستذكر أن لبنان، وبخلاف معظم البلدان في العالم، كان قد ابتُلي بمصيبتين هما وباء الكورونا ، والإنهيار الإقتصادي المرير. وإذا أمعنا النظر، نجد أنه من غير الممكن في هذا الوقت استبصار الحالة التي ستؤول إليها البلد بعد الوباء، ولو أن الصورة العامة من الناحية السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية تبشر بمعارك متعددة سنضطر إلى خوضها للخروج من هذه الأزمة البالغة التعقيد.
ومن المعارك التي سنراها قادمة في المستقبل القريب جداً، معركة المدارس والجامعات، ومصير العام الدراسي 2019 – 2020. وحتى نضع الأمور في إطارها الصحيح، لا بد من أن نقرأ شريط الأحداث الخاص بقطاع التعليم منذ بداية العام الدراسي وحتى اليوم. ففي أيلول من العام الماضي، وكما في كل عام، افتتحت معظم المدارس والجامعات أبوابها للتلاميذ، ودائماً على وقع غير مستقر مرتبط بالدائرة المفرغة التي دخل فيها قطاع التعليم في لبنان – وللأسف – منذ زمن. وتنطلق هذه الدائرة من مبادرة الكثير من المؤسسات التعليمية إلى زيادة الأقساط، ولو في كثير من الأحيان بشكل غير مبرر ولا يمكن تفسيره إلا بالشهية الكبيرة للربح؛ ويأتي بعدها موقف الجسم التعليمي المُطالِب بزيادة الرواتب، والتي كان حصوله عليها بمثابة الفرصة التي كانت معظم المؤسسات التعليمية تنتظرها لتبرير الزيادة في الأقساط؛ لتنتهي هذه الدائرة المفرغة عند الأهل الذين كانوا يرفعون الصوت بلا حول ولا قوة، عالقين بين مطرقة الأقساط وسندان مسؤوليتهم تجاه تعليم أبنائهم.
هكذا، وبعد أقل من شهرين على دخول التلاميذ إلى مدارسهم وجامعاتهم، يرافقهم هاجس الإضرابات الذي تعودنا عليه حتى أصبحنا نتوقعه، حصلت الهزة الأولى التي تمثلت بإنتفاضة 17 تشرين الأول 2019. ولم تكن هذه الهزة الإقتصادية الاجتماعية السياسية – في بداياتها – سوى رد فعل طبيعي وتراكمي على حالة التقزز التي وصل إليها الشعب اللبناني وهو يشاهد مستوى الغباء، والطمع، والفساد، والعقم الذي يصبغ مقاربة الدولة، والسياسيين، والرأسماليين لإدارة البلد. وبعد هذه الإنتفاضة، دخل القطاع التعليمي بدوامة مضطربة من التدريس والإقفال حتى وصول وباء الكورونا، حيث اتخذت الحكومة قرار التعبئة العامة، وبالتالي إقفال المدارس والجامعات حتى إشعارٍ آخر. تطلب القطاع التعليمي، بما فيه وزارة التربية حوالي أسبوعين لاستيعاب الهزة الثانية في البلد، قبل البدء بالتفكير بحلول عملية ومبتكرة لإنقاذ العام الدراسي، أو ما تبقى منه. وعليه، بدا واضحاً أن المخرج الوحيد لمعالجة هذه المشكلة، كان باللجوء إلى التعليم عن بعد بالإعتماد على الإنترنت، بالرغم من التحديات الكبيرة المتعلقة بتوفر الأجهزة في المنازل، وسرعة الإنترنت، وطريقة الشرح، وإلتزام التلاميذ وتركيزهم على الدراسة، وإمكانية تقييم التعلم، إلخ.
وبالفعل، بدأت المدارس والجامعات من ناحية، ووزارة التربية بالتعاون مع تلفزيون لبنان من ناحية أخرى، بإعطاء الدروس عن بعد خلال الفترة الماضية وحتى اليوم. وبالرغم من أن الخطة المرحلية لتخفيف إجراءات التعبئة العامة لحظت العودة إلى التعليم ابتداءاً من أواخر أيار وأوائل حزيران 2020، إلا أن هذا الإجراء لم يخلو من غموض واضح لا يجيب على الأسئلة المتزاحمة التي تدور في ذهن الأهل والتلاميذ، ومنها:
– ما هو مصير العام الدراسي، وهل سيترفع التلاميذ إلى الصفوف العليا؟ كيف يمكن تقييم مستوى التعلم الذي حصل خلال مرحلة التعليم عن بعد، وهل ستدخل نتائجه في التقييم النهائي للتلاميذ قبل الترفيع؟
– هل من المجدي عودة التلاميذ إلى المدارس والجامعات مع بداية فصل الصيف والحر؟ وإذا عادوا، متى ينتهي العام الدراسي، خاصة أننا على أبواب الصيف الحار ومعظم المدارس غير مجهزة للتعليم خلال هذا الفصل؟
– حتى ولو عاد التلاميذ، كيف ستكون إجراءات التباعد الاجتماعي، خاصة أن قدرة استيعاب الصفوف في معظم المؤسسات التعليمية هي مكتملة؟ إضافة، كيف سيتم التعامل مع موضوع النظافة لناحية اختلاط التلاميذ في الملاعب، والتعرق، واستخدام دورات المياه؟
– هل سيتم إجراء الإمتحانات الرسمية في ظل عدم الاستقرار الحاصل، وهل إن التلاميذ جاهزين ذهنياً ونفسياً وعلمياً لتقديم الإمتحانات الرسمية بعد فترة الحجر والتوتر التي مروا بها؟
– ما هو مصير الأقساط وكيف ستتم معالجة هذه الإشكالية بين المؤسسات التعليمية والأهل؟ وكيف نتفادى أن تتحول هذه المسألة إلى جدل بيزنطي بين ما إذا كان يمكن اعتبار هذا العام الدراسي مكتملاً، وما إذا كان يجب دفع رواتب المعلمين كاملة، وما إذا كانت المؤسسات التعليمية المقفلة تتكلف ذات المصاريف التشغيلية، إلخ.؟
وعلى ضوء هذه الأسئلة، يشعر الكثير منا أن هناك نوع من التريث الزائد وربما التفادي المقصود لفتح هذه المعركة، لعلم كافة الأطراف المعنية أنها معركة مساومة وليست معركة ربح أو خسارة. ولا يجب تفسير هذه المهادنة من قبل الأطراف على أنها خجل أو ضعف، فنحن أصبحنا ملوك الجدل العقيم، والمفاصلة، والعدوانية، وتبادل اللوم، بدل أن نكون ملوك المقاربات الإيجابية، واستنباط الحلول، وتغليب المصلحة العامة على الأنانية وحب الذات. فشئنا أم أبينا، إن كل الأطراف تَعِد عدتها وتحضر مرافعاتها وتشحذ سيوفها للدخول في هذه المعركة، وهي ليست إلا مسألة وقت، ووقت قصير جداً حتى تبدأ. وبالرغم من وجود فرضيات عديدة لحالة الغموض هذه، فهناك العديد من التكهنات حول الحالة الذهنية لكل من الأطراف. فالكثير يتكهن أن المؤسسات التعليمية سعت إلى استكمال التعليم عن بعد، وتسعى الآن إلى عودة التلاميذ حتى ولو لمدة قصيرة حتى يتسنى لها المطالبة بالأقساط عن عام دراسي أقل ما يقال فيه أنه عام مضطرب؛ وهناك تكهنات أن المعلمين عَلَموا وسَيُعَلِمون التلاميذ عن بعد أو في المؤسسات التعليمية لتفادي الإقتطاع من رواتبهم أو خسارة وظائفهم؛ وهناك تكهنات أن الأهل ولجانهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي في حال مطالبة المؤسسات التعليمية بالأقساط كاملةُ؛ وأخيراً هناك تكهنات أن وزارة التربية تحاول التطرق إلى هذا الموضوع على طريقة تقريب وجهات النظر، دون أن يكون لها خطة كاملة تمسك من خلالها بزمام الأمور وتضع النقاط فوق الحروف لكافة الأطراف بحزم ودون مساومة، كما فعلت وزارة الصحة بتعاملها مع القطاع الصحي خلال فترة الوباء.
إن استمرار هذا الوضع الضبابي لا يصب في مصلحة أي من الأطراف، وخاصةً التلاميذ الذين دائماً ما يدفعون ثمن سوء التخطيط وسوء الإدارة وسوء الإرادة! عليه، ولنتمكن أن نضع هذا الملف في إطاره الصحيح وتوجيهه لناحية الحل الأفضل في الظروف الراهنة، يجب أولاً الاتفاق على مجموعة من المعطيات تخص كافة الأطراف:
1. لا يمكن اعتبار العام الدراسي 2019-2020 عاماً معيارياً مكتملاً، إن كان لناحية إتمام المناهج بحسب الوقت المخطط لها، أو لناحية التعلم النموذجي وبيئته. فهذا الأمر لا يمكن أن يكون قد سمح للتلميذ باكتساب المعرفة بالمستوى المطلوب، خاصةً مع الحالة الذهنية والعقلية والنفسية وقدرته على الاستيعاب والتركيز خلال فترة الحجر الصحي.
2. لا يمكن اعتبار أن المؤسسات التعليمية ليس لديها الحق بالمطالبة بالأقساط عن العام الدراسي 2019-2020، ولكن بالمقابل يجب الاتفاق على المطالبة بنسبة مئوية من الأقساط فقط ودون تحقيق أرباح، بما يشمل الأقساط التي تم تسديدها سابقاً.
3. لا يجب حسم أي نسبة من الراتب الأساسي للمعلمين لأن عدم حضورهم إلى مركز العمل كان قسرياً نتيجة التعبئة العامة، ولأنهم التزموا بإعطاء الدروس على الانترنت بحسب الجداول التي وضعتها لهم المدرسة.
4. لا يجب على الأهل توقع عدم تسديد أي أقساط عن العام الدراسي 2019-2020، مع الإتفاق أن قيمة القسط يجب أن تكون مبنية على معادلة علمية وموضوعية دون تذاكٍ من أي طرف.
5. يجب أن تفتح وزارة التربية هذا الملف بدون خجل أو تردد، واليوم قبل الغد، وأن تديره بشكل عادل وموضوعي وحازم مع كل الأطراف حتى لا يتحول الموضوع إلى قميص عثمان، يدفع ثمنه في نهاية الأمر أبناؤنا كما في معظم الأحيان.
انطلاقاً من هذه الثوابت الموحدة والمتفق عليها، يمكننا مناقشة الخيارات المتوفرة لمعالجة هذا التحدي الكبير. ونورد هنا بعض الاقتراحات التي يمكن أخذها بالاعتبار خلال مناقشة الحل:
1. عدم إعادة فتح المؤسسات التعليمية لهذا العام الدراسي، والاستمرار باعتماد التعلم عن بعد كأهون الشرور. فهذا الأمر منطقي من الناحية اللوجستية، والصحية المتعلقة بالوباء، وبفعالية التباعد الاجتماعي في المدارس والجامعات، بالإضافة إلى الحالة النفسية للتلميذ، والأهل، والمعلمين، وموظفي المؤسسات التعليمية في هذه الفترة المعقدة.
2. إنهاء الجدل حول إجراء الإمتحانات الرسمية، على الأقل في ما يتعلق بالشهادة المتوسطة. فمن الناحية الأكاديمية لا يمكن الجزم بأن كافة تلاميذ الشهادات الرسمية حصلوا على التعليم بشكل متساوي خلال الحجر، وفي هذا الأمر ظلم للتلميذ الذي لم يتسنى له المتابعة لأسباب لوجستية أو غيرها. إضافةً، فإن تنظيم الشهادات الرسمية سيجلب معه أيضاً الملفات المزمنة للأساتذة، ولكلفة المراقبة والتصحيح، وقدرة الدولة على دفع الأرقام الكبيرة التي يتقاضاها الجسم التعليمي خلال فترة الشهادات الرسمية، والتي دائماً ما طُرِحَت حولها علامات استفهام كبيرة جداً! كل هذا بالإضافة إلى الحاجة المفصلية لعدم إضاعة الوقت في استيعاب تأثير فترة التوقف على معرفة التلاميذ، وكيف يجب على وزارة التربية والمؤسسات التعليمية العمل لإيجاد إخراج مناسب وفعال لمنهاج العام الدراسي القادم.
3. تخفيض الأقساط بنسبة 20% إلى 30%، باعتبار أن هذه القيمة هي الربح المحقق للمؤسسات التعليمية بشكل عام. وعليه، تصبح القيمة المتبقية من الأقساط كافية لتسديد رواتب المعلمين والموظفين، ومصاريف الكلفة التشغيلية، مع عدم تحقيق أي ربح عن العام الدراسي 2019-2020.
4. تجميد المشاريع المتعلقة ببناء مرافق أو أبنية جديدة في المؤسسات التعليمية، أو المتعلقة بالاستحصال على معايير جودة عالمية، أو أي مخططات مستقبلية يمكن تأجيلها، وذلك للحؤول دون الحاجة إلى زيادة الأقساط في السنوات الثلاثة القادمة على الأقل.
5. إعفاء المؤسسات التعليمية من ضريبة الدخل و من الضريبة على القيمة المضافة للعام الدراسي 2019-2020، ومن واحدة منهما في العامين 2020-2021 و2021-2022.
6. دفع كامل الراتب الأساسي للمعلمين مع حسم بدل المواصلات وأي بدلات متعلقة بتواجدهم في حرم المؤسسة التعليمية.
7. دفع الراتب الأساسي لموظفي المؤسسات التعليمية، مع اقتطاع نسبة مئوية بحسب شطور الراتب. مثلاً، للرواتب من 2 مليون ليرة لبنانية وما دون، لا اقتطاع من الراتب الأساسي (فقط من البدلات)؛ للرواتب بين أكثر من 2 مليون و 3 مليون، اقتطاع 15% من الراتب عن الشطر الثاني (أي بين أكثر من 2 مليون وحتى 3 مليون)؛ للرواتب بين أكثر من 3 مليون و4 مليون، اقتطاع 15% من الشطر الثاني، و20% من الشطر الثالث، وهكذا دواليك.
8. إعفاء المعلمين وموظفي المدارس من اشتراكات الضمان الاجتماعي بنسبة 50% عن العام 2020 و2021.
9. إلزام الأهل بتسديد الأقساط المخفضة والمستحقة عن العام 2019-2020 بمدة أقصاها نهاية ال 2020. كذلك، إلزام المؤسسات التعليمية بتقسيط الأقساط شهرياً أو فصلياً بحسب جدول يتم الاتفاق عليه مع أهل الطلبة. وعلى الأهل الالتزام بهذا الجدول وإدارة شؤونهم المالية بطريقة تسمح لهم التقيد بهذا الإلتزام.
10. إلزام المصارف بإعادة جدولة قروض المؤسسات التعليمية بفائدة 0% وذلك كجزء من التكافل والدعم لهذا القطاع الأساسي والذي يجب أن يحافظ على مكانته ونوعيته للأجيال القادمة في هذا الإطار.
إن المبادرة إلى كسر حاجز الصمت والتوجس بين كافة الأطراف في هذا الملف، وحثهم على مواجهة هذا التحدي كفريق واحد وبذهنية التعاون الإيجابي لما فيه مصلحة التلاميذ، هو أمر شديد الأهمية ويجب التطرق إليه عاجلاً وليس آجلاً. فالعلم قاهر الفقر. أقول هذا لكل من يعزف معزوفة الموت حول نسبة الفقر في لبنان، ومن هؤلاء ذاتهم من يسعى جاهداً لزيادة هذا الفقر دون أن يرف له جفن. لقد أضعنا الكثير من الوقت في مهاترات النمط الجدلي العقيم، وفي ملاحم الفكر الطائفي الميليشوي الذي دمر البلد بواسطة الفساد. وها نحن الآن نقف أمام أهم ملف من ملفات الوطن ألا وهو مستقبل الأجيال اللبنانية القادمة، مستقبل أبناءنا جميعاً، ولدينا الخيار إما بأن نعالج هذا التحدي كما وقفنا بفخر في وجه الكورونا، ونظمنا والتزمنا وانتصرنا، بإذن الله، أو أننا سنستمر على النهج الفاسق الذي اعتدنا علية منذ ال 75 والى اليوم؟! الخيار لنا.
شارل س. صليبا
Positive Thinker
Organizational, Leadership & HR Expert
Founder & CEO at HR Works – Consulting House
President of the Lebanese Consultants Association
Copyright – Charles Saliba © 2020