Articles

الأنظمة المتوازية شر لا بدّ منه أم وسيلة إبتكار؟

عندما تعتل الأنظمة يعتل معها العديد من الثوابت التي عادة ما تعتبر من البديهيات. فحين يكون النظام صحيحا” تكون كافة آلياته صحيحة وتعمل بدقة، أو على الأقل تعمل بالحد الأنسب من الفعالية، خاصة إذا أخذنا المتغيرات التي تؤثر على هذا النظام بعين الإعتبار. وبغض النظر عن سبب هذا الإعتلال، فإن النتائج التي تصدر عنه عادة ما تحدث تشرذما” وخللا” في المخرجات التي يتوخاها المستفيدون من هذا النظام. وإذا أردنا ان نكون أمينين للحس الإيجابي، فإنّ هذا الخلل يساهم في خلق بيئة حاضنة للإبتكار ويمكن من النظر للأمور من زاوية مختلفة بهدف التحسين.

وإن كانت هذه أو تلك، فإن أهم ما في الأمر هو ظاهرة مثيرة وطبيعية تحدث كشبه نتيجة لإعتلال الأنظمة ألا وهي الأنظمة البديلة أو المتوازية التي تظهر بسرعة البرق لتحل، ولو  لفترة قصيرة، مكان الأنظمة المعتلة، فتقوم مقامها وتنفذ مهامها بشكل يتراوح من حد أدنى بسيط وربما غير فعّال وحتى مستوى رفيع من الجودة تتخطى في الكثير من الأحيان جودة المخرجات التي كان يقدمها النظام العليل.

وتزدهر الأنظمة المتوازية بالأكثر حين يكون النظام المعتل من الأنظمة التي توفّر بوجودها مخرجات وحلول لعدد كبير من الجماهير. مثلا” نظام توريد الكهرباء المتوازي في لبنان والذي حل محل نظام توريد الكهرباء الذي تؤمنه الدولة بنسبة تتجاوز ال ٩٠٪ في هذا الاطار. ولكن الأنظمة المتوازية لا تزدهر فقط في هذه الحالات وانما تتخطاها لتصل الى الانظمة الحكومية البديلة، كحكومة الظل، والأنظمة الإجتماعية البديلة كالتعاونيات وصناديق التعاضد، والأنظمة الإقتصادية البديلة كالإقتصاد المتوازي الذي توجده الدول والهيئات المانحة، وغيرها من الأمثلة.

يتبادر لنا إذا ما توكدنا في هذه النظرية التطبيقية ثلاثة أسئلة رئيسية:
اولا”، من المسؤول عن إطلاق الأنظمة المتوازية؟
ثانيا”، كيف تأخذ الأنظمة المتوازية شكلها؟
ثالثا”، هل من الأفضل محاولة معالجة النظام العليل أم أنّه من الأنسب البناء على مقومات النظام المتوازي وإستبداله بذلك العليل؟

تظهر التجربة أجوبة مختلفة على كل من الأسئلة أعلاه. فمسؤولية إطلاق الأنظمة المتوازية تتراوح بين المبادرة الخاصة العلنية وربما الرسمية، وبين المبادرات المموهة والمصممة في صناديق سوداء يصعب فتحها. فيمكن في هذه الحال مثلاً إعتبار حالة الكهرباء في لبنان من النوع الأول، اما عصابات التهريب في زمن الحروب فهي من النوع الثاني. وهنا أيضا”، إذا اردنا أن نتبنى المقاربة الإيجابية، يمكننا القول أن المسؤولين عن إطلاق الأنظمة المتوازية هم من المبدعين والمبتكرين في فلسفة “الحاجة” التي هي أم الإختراع. فغياب الكهرباء يحتّم البحث عن بديل، وغياب دور الدولة يحتّم قيام أنظمة بديلة لييسر الانسان شؤونه ويوفر حاجاته، كما أن غياب أي حاجة ضرورية أخرى يفرض السعي للحصول عليها بالطرق المتوفرة.

أما كيف تأخذ الانظمة المتوازية شكلها، فإنّ هذا الامر مرتبط بثلاث عوامل أساسية.
أولا”، أهمية الحاجات التي كان يؤمنها النظام العليل بالنسبة لمستخدمي مخرجات هذا النظام. فكلما كانت هذه الحاجات مهمة، كلما كان النظام البديل بحاجة الى أن يكون منظماً ومدار بطريقة فعالة ومربحة. فالشكل مرتبط بالأهمية، أما اذا كانت خدمات النظام العليل غير هامة فإن مستخدمي هذا النظام عادة ما يلجؤون الى أساليب بسيطة، كل على طريقته، لتأمين ما يحتاجون اليه في هذا الإطار.

ثانيا”، المدة التي سيبقى فيها النظام المتوازي قائما”. فكلما طال عمر النظام المتوازي، كلما صعب الخروج منه خاصة أن ما يتغير مع الوقت هو ذهنية الإنسان الذي يتعلق بالنظام البديل من الناحية الفكرية والعاطفية ويصبح من الصعب عليه العودة الى النظام السابق. بالإضافة، فإنه كلما طال عمر النظام المتوازي كلما تحول الى أمر واقع يصعب تبديله، وعندها يتم اللجوء الى حلول التراضي التي تكسب النظام البديل الصفة الرسمية وعليه يصبح نظاماً بديلاً بشكل رسمي. مثالاً على ذلك موضوع الأملاك البحرية في لبنان، أيضاً.

وثالثا”، قوة التجاذب بين النظام العليل والنظام البديل ولمن تكون الغلبة. فكلما زادت الحاجة للنظام البديل، وكلما طال بقائه، اكتسب قوة جذب كبيرة لدوره في توفير الحاجات التي لم يعد النظام العليل قادر على توفيرها وبالتالي فإن شكله يصبح منصة خلاص لا غنى عنها ويكتسب كامل القوة الناتجة عن أمر واقع. أما إذا أثبت النظام البديل عدم قدرته على توفير المخرجات المطلوبة للمستخدمين فإن من المرجح أنه سيفقد قوة الجذب خاصته – أو على الأقل جزءاً كبيراً منها – لصالح النظام العليل بالرغم من علته، وهنا تنطبق مقولة اللبنانيين “الكحل أحلى من العمى”.

من هنا وبناء” على الجملة الأخيرة أعلاه، نتطرق للسؤال الثالث حول ما الأفضل، محاولة تصحيح النظام العليل، أم تطوير النظام البديل ليأخذ مكانه. وهنا أيضا” تظهر التجربة تباينا” في وجهات النظر بين الأول والأخير. ففي أكثر الحالات يميل الانسان الى النظام القديم العليل، وربما بدافع النوستالجيا لا أكثر ولا أقل. فالطبيعة البشرية عادة” ما تغربل التجربة ويختار اللاوعي فينا الذكرى الجميلة من النظام العليل بالرغم من كل سيئاته، وهذا اللاوعي ذاته يختار عدم تذكر الخبرات السيئة بالرغم من وجودها وربما بكثرة. فمثلاً يمكن نسمع عدد لا بأس به من اللبنانيين يترحم على أيام الحرب الأهلية قائلين: “كانت أيام خير وبحبوحة مالية أكثر من اليوم بالرغم من الحرب الدائرة”. وهذا أمر غريب عجيب إذا نظرنا اليه بشكل سطحي، أما في عمقه فهو تعبير على أن النظام البديل لم يوفر لهذه المجموعة من الناس ما كان النظام العليل يوفره في الماضي بالرغم من كل سيئاته.

من ناحية أخرى، نرى أمثلة كثيرة على توجه المجتمعات والاقتصادات إلى تبني الأنظمة البديلة كوسيلة رسمية للتخلص من نظام عليل فقد فيه الأمل والرجاء. وأكثر الأمثلة صدوحاً في هذا المجال نظرية خصخصة القطاع العام، ونظريات تحرير الإقتصاد والسوق. فما الخصخصة في صلبها إلا نظام بديل تسعى اليه الجهات المسوقة له كحل للتخلص من عدم فعالية الإدارة في القطاع العام، وضعف المعايرة، والبيروقراطية المكلفة، وثغرات الفساد، وغيرها من الآفات التي يعاني منها القطاع العام عالميا”. وإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية، فإن الخصخصة وتحرير الإقتصاد يظهران كحل فعّال ومنطقي لعدم نجاعة القطاع العام، ولكن يبقى السؤال الذي يطرحه مناصري النظام القديم العليل: من يضمن لنا أن الخصخصة – بالرغم من حسناتها – لن تسيطر على مقومات الدولة وتمعن في إضعافها أكثر للتمكن من كل مفاصلها، حيث يصبح الوطن شركة تجارية رأسمالية كبيرة بدل أن يكون شراكة عقد اجتماعي – هذه الشراكة هي الدولة – بين كافة مواطنيه؟

ويبقى، ما يقبله العقل تختلف عليه القلوب، والعكس بالعكس. فإذا اعتل النظام، ما هي الأسباب؟ وإذا ولد نظام بديل، ما هي الأسباب؟ ربما تكون الاجابة واحدة على السؤالين وهي: اسألوا الطبيعة البشرية.

الأنظمة البديلة، شر أم ابتكار؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في سبب نشوء هذه الأنظمة في البدء. فإذا كان النظام البديل ناتجاً عن إعتلال النظام الأساسي وهو يوفر حلا” فعالا”، عادلا”، تنافسيا”، تحت سقف القانون ومعه، فربما يمكننا إعتباره إبتكارا” واستجابة لحاجة لم يعد النظام الحالي العليل قادر على تقديمها. أما إذا كان النظام البديل ناتجا” عن إعتلال النظام الأساسي وهو يوفر حلا” ربما فعالا” ولكنه غير عادل ولا تنافسي وهو خارج إطار القانون فإنه من دون شك يحمل الشر في طياته. وتبقى أسوأ الشرور عندما يتحمل المستخدمون كلفة نظامين دون القدرة على الإعتراض. حيث يحمل النظام البديل نية المبادرة إلى تدمير نظام صحيح أو نظام بدأ يعتل، ويمعن في هذا التدمير دون حساب أو رقابة بهدف البقاء حيا” وبين نظام عليل يأبى ألا أن يبقى حيا” ولو أنه لم يعد يقدم أكثر من حفنة من المخرجات التي وجد من أجل توفيرها في الأصل. وهنا أيضا” يتبادر الى الأذهان نظامي الكهرباء العليل والمتوازي في لبنان، حيث يتحمل المواطن فاتورة نظام عليل ومهترئ من ناحية، وفاتورة نظام بديل – ربما فعال – يهيمن على السوق ويستخدم الهيكل العظمي للنظام العليل لنقل الكهرباء دون حسيب ودون رقيب. ففي هذه الحال خسأت الأنظمة البديلة كلها.

كل ما في الأمر نهاية” يمكن إختصاره بأن الأنظمة كالكائنات الحية، فهي تولد، وتنمو، وتتغير، وتعتل. وفي حال لم يكن القيم على النظام العليل قادر على شفائه، فإن النظام البديل أو المتوازي يصبح شرا” لا بد منه. ولكن حتى في هذه الحال يجب على النظام المتوازي أن يكون مبادة إبتكارية حسنة النية، فعالة، تنافسية، خاضعة لـ وبرعاية القانون. والأهم هو أن تكون مرتبطة برؤية زمنية محددة توضح متى سيحل النظام البديل كليا” مكان النظام العليل، أو سيتعافى النظام العليل ويعود الى توفير سبب لوجوده.