لا يخفى على أحد من اختصاصيي التغيير المثل القائل: “إذا استمريت بفعل ما تفعله، ستستمر بالحصول على ما تحصل عليه”. وهذا القول هو الخانة الاولى التي ينطلق منها فكر التغيير ويعتمد عليها في بناء الوعي اللازم لإحداث هذا التغيير. وفي الإطار ذاته، يوحي هذا المثل أيضاً بأن حصول التغيير يتطلب القيام بأمر مختلف عن ما نقوم به كل يوم، وذلك لكسر الدارة المغلقة التي نقع فيها نتيجة التكرار. فالإنسان بالمطلق معادٍ للتغيير، إما لخوفه من المجهول الذي يأتي به، وإما لأنه يشعر بالراحة حيث هو ولا يرى أي دافع للتغيير. هذا من ناحية أولى، أما من ناحية ثانية، فإن القيام بأمر مختلف يؤدي الى تغيير كبير في المعادلة نتيجةً للمتغيرات التي تدخل الى مكوناتها والتي تكون كفيلةً بإطلاق سلسلة التغيير Chain Reaction. فالمتغيرات التي تدخل الى المعادلة من شأنها أن تكسر الدارة المغلقة، أو على الأقل أن تغير نمط عملها، بحيث يصبح لدينا معطيات جديدة يمكن من خلالها البدء بعملية التحول وبالتالي إحداث التغيير.
يشبه هذا الأمر كثيراً علم الكيمياء الذي يعتمد على مجموعة من العناصر وعلى بيئة محددة لحصول التفاعل الكيميائي، وإذا أردنا أن نحصل على معادلة جديدة يجب علينا أن نغير أو نعدل العناصر و/أو البيئة. وعليه نكون قد أطلقنا سلسلة تفاعلية جديدة تعتبر بحد ذاتها حاضنة للتغيير.
المملكة العربية السعودية قامت للتو بكسر هذه الدارة المغلقة من خلال السماح للمرأة بقيادة السيارة، وبالتالي فإنها أطلقت سلسلة تفاعل كيميائي ستكون محوراً للتغيير. وبالرغم من أن التغيير يبعث على التوتر وربما الخوف من النتائج، خاصة أنه يُنتِج متغيرات جديدة لم يتم التعامل معها من قبل، وإنما كما يعلم كل خبراء التغيير، عندما يصبح الأمر الواقع خَطَراً وجودياً، لا بد أن نلجأ الى التغيير لتفادي الإندحار. تماماً كما يقول صديقنا الكاتب سبنسر جونسون في كتابه “من حرك الجبنة خاصتي”، “يجب عليك أن تتحرك مع الجبنة وإلا فإنك ستخرج يوماً الى ذات المكان الذي تأتيه كل يوم ولن تجدها” وهناك الطامة الكبرى.
التغيير في المملكة قد بدأ، وربما الكثير من الناس كانوا ينتظرون هذا الأمر، لأنهم يرون بعض من المبالغة في قلة التغيير، وربما يكون جزءاً من هذا التفكير صحيحاً الى حد ما. ولكن مهما كان الأمر، فإنه واجب على كافة راصدي التغيير وطالبيه من المثقفين، والمتعمقين، والعقلانيين، ليس فقط في المملكة وإنما في أنحاء كثيرة من العالم، أن يكونوا موضوعيين، صادقين، وإيجابيين في مطلبهم. ففي زمن التغيير هناك الكثير من السطحيين الذين لا يرون في التغيير الا انتصاراً على التقليدية، وهو غالباً ما يكون انتصاراً فارغاً. وهناك أيضاً طالبي التغيير لغايةٍ في نفس يعقوب. وهناك دائماً المصطادين في الماء العكر، وكذلك الشامتون، والمطبلون والمزمرون.
وبغض النظر عن هذه الحفنة من الاشخاص، يجب علينا أن نكون متريثين جداً في قراء التغيير وخاصة ذلك الذي حصل الآن في السعودية. فلهذا التغيير دلالات خاصة جداً وذلك لثلاثة أسباب:
أولاً، صدر قانون السماح للمرأة بقيادة السيارة مباشرة بأمر ملكي، وهذه النقطة لديها رمزية خاصة جداً يُفهم من خلالها أن انطلاق التغيير بدأ بأمر من رأس الهرم ولم يكن نتيجة لمظاهرات صاخبة وأعمال شغب. وحتى لو أن هذا القرار أتى الآن بسبب استشعار الضغوط المطالبة بقليل من التحرر، فإنه يستحق بلا شك الثناء لصفته الاستباقية. فإذن، إذا أتى التغيير مباشرة من الملك ذاته، فإنه الاشارة المنتظرة لإطلاق عملية التغيير الشامل وخاصة أنه يطال فئة رئيسية من المجتمع السعودي والتي لم يكن يحسب لها حساب سابقاً.
ثانياً، أتى التغيير في المملكة حول أحد أكثر المواضيع حساسية في المجتمع ألا وهو موضوع المرأة. ومن هنا نستشف رمزية كبرى أولاها الملك للمرأة عندما جعلها محور إنطلاقة التغيير في المملكة. فالمرأة هي قوة التغيير الكبرى في أي مجتمع، فهي الأم والمربية والمدرسة الأولى والركن الثاني الذي يرتكز عليه أي بيت وأية عائلة بعد الأب، ومن البيت والعائلة ينطلق التغيير. بالإضافة، فإن الرمزية الكبرى لهذا الأمر هي أنه يرسل رسالة ولو غير مباشرة بأن المجال قد فتح في ما يتعلق بإمكانية النقاش بأمور ومواضيع كان من المحظور التكلم بها من قبل وخاصة تلك المتعلقة بالحرية المدنية والاجتماعية للمرأة.
ثالثاً، دخل التغيير من باب وسيلة النقل التقليدية والأكثر انتشاراً ألا وهي السيارة. ولهذا الأمر أيضاً معانٍ لا يمكن تجاهلها. فالسيارة بهدفها الأساسي تستعمل للانتقال من مكانٍ الى آخر، وحين تسمح للمرأة بالقيادة في بلدٍ كانت فيه حركة المرأة مقيدة إما بالسائق الخاص أو بسيارة الأجرة، ودائماً تحت أنظار الولي أو الشرطة، وخاصةً تلك الدينية، فإنك بذلك تفتح المجال أمام متغيرات كثيرة للدخول في صلب المعادلة، تماماً كما ذكرنا سابقاً. فالمرأة خلف المقود تعني إمكانية خروجها وحيدة دون مرافقة، كما وتعني أنها ستقود على ذات الطرق التي يقود عليها الرجال، وستحصل حوادث السير بين المرأة والرجل وبين المرأة والمرأة، وستخالف المرأة قوانين السير وتحصل على مخالفة، وستتوقف المرأة على محطة الوقود، وتتعطل سيارتها، وغيرها من المواقف التي ستوضع فيها المرأة لأول مرة في تاريخ المملكة، ومن دون شك الرجال أيضاً.
كل هذه الأمور تطرح أسئلة عديدة حول مدى استعداد المملكة دينياً، واجتماعياً، وإقتصادياً لهذا التغيير، وحتى تطرح موضوع استعداد أجهزة الدولة للتعامل مع هذا التغيير. الاجابة ممكن أن تختلف بين المؤيد والمعارض والمتوجس. ولكن كل هذه لا تعدو كونها أسئلة وأفكار، والأكيد أن هذه الأفكار تقف الآن وجهاً لوجه مع واقع أصبح حقيقة وتغيير غادر حيِّز الخيال.
بشجاعة كبيرة قفزت المملكة قفزة إيمان نحو التغيير، ونسميها هكذا لأنه لا يوجد حسابات مع التغيير. فالمتغيرات كثيرة، والطموح كبير، وعندما يغادر القطار المحطة قلما يعود الى الوراء، ومن هناك تبدأ رحلة تتغير فيها المشاهد على مدار الساعة حتى لا نقول على مدار الدقائق. لا يجب على أحد أن يفرح ويهلل ولا أن يقمط ويعبس، لأنه وبكل موضوعية، وكما في كل حالة تغيير، سيأتي هذا التغيير بحسنات كما سيأتي بسيئات ولا يمكن الحكم عليه من الوهلة الأولى. فالتغيير مثل عمل الأمواج في صخور البحر، بطيء ولا يمكن رؤية تأثيره الا بعد زمن، وهذا ما يجب أن نتوقعه في المملكة أيضاً.
هل تتغير المملكة؟ لربما لم يعد هناك من خيار، خاصة مع عالم رقمي معولم لم تعد للمسافة فيه من قيمة، ولا للقواعد من أسس، ولا للروادع من هيبة، فأصبح كل شيءٍ وارداً. والمهم في كل ما نقوله هو أن باب التغيير قد فتح، وقطاره قد غادر المحطة، وكما أرى من خلال خبرتي في التغيير، فإن التغيير الذي يأتي من رأس الهرم هو التغيير الأصح، وهو ما أسميه “التغيير التطوري”، أما النوع الآخر من التغيير، وهو ما لا أحبذه، فهو التغيير الذي يحصل من قاعدة الهرم، وهو ما أسميه “التغيير الثوري” الذي لا يجب أن يصل اليه القائد الحكيم، والله ولي التوفيق.