Blog

بين الانسان والإنسانية

يتبادر الى ذهني في هذه الايام أسئلة كثيرة حول السلوك البشري وكيف يمكن تحليله وفهمه. فمن أين يأتي السلوك؟ وهل هو مكتسب أم أن الطبيعة تحمله في تركيبتنا الجينية؟ وهل هناك من ضمير متصل بين كل البشر يمكن من خلاله أن نفهم التصرفات البشرية العامة أو المتعارف عليها؟ وهل إذا فعلنا هذا الأمر، يمكن أن نقع في التعميم؟ إذا كانت فكرة وجود هذا الضمير المتصل صحيحة، فهل هذا ما يبرر المزاج العنيف للبشرية الذي يتخبط فيه عالم اليوم؟ وهل هذا يفسر لنا الانحطاط الاخلاقي الجامع من أقصى الأرض الى أقصاها؟ وهل يمكن لهذا الضمير المتصل أن يكون وباءً نفسياً وفكرياً حل بالبشرية نتيجة للاتساخ القيمي الذي أدخل الى عقول وقلوب الناس من خلال قنوات لا حصر ولا عد لها؟ 

أسئلة عديدة ربما تكون أكثر من وجودية، والاجابة عليها لا بد أنها معقدة. لكن ما يثيرني في هذا الأمر هو سؤال واحد، لربما هو الأهم بين أسئلة اليوم. وإذا أردنا أن نغالي، فلعله من أهم الأسئلة الوجودية في تاريخ الجنس البشري. هذا السؤال هو: هل “الإنسانية” هي حق مكتسب؟ 

ناقشت نفسي حتى الكلل وجادلتها كثيراً في هذا السؤال المقلق، كوني كنت خائفاً أن أقع في محظور التفسير وأن تأول حالي الى نتائج لا تحمد عقباها. ولكن بعد الكثير من الصولات والجولات، والملاحظة والتأمل، والتعمق والتبصر، وجدت نفسي في موقع المتأكد أن الانسانية ليست حق مكستب، وأن هناك فرق شاسع بين “الإنسان” و”إنسانيته”. 

ولدحض أي لغط في التفسير القائم، ما أعنيه بـ “إنسانية الإنسان” في هذا الإطار، لا يقتصر فقط على التفسير المتعارف عليه حول “الإنسانية” كصفة فعل، مثل القول: “هذا الرجل إنساني”، أو “هذه جمعية تختص بالعمل الإنساني”، أو “قام الأطفال بعمل إنساني”. ما أعنيه بكلمة “إنسانية” هي صفة  كينونة الإنسان بكليته، أي استحقاق الإنسان لصفته الإنسانية من بابها الواسع، وهذا التعريف أشمل بكثير من التفسير العام لكلمة “الإنسانية”. فإنسانية الإنسان لا تعني فقط أن يكون الفرد لطيفاً، فاعلاً للخير، يشعر مع الآخرين  ويساعدهم، بل هي كل الصفات التي تجعل من الإنسان “إنساناً” على صورة الله، تماماً مثلما أراده الله سبحانه وتعالى في الشكل والمضمون. “الإنسانية” كصفة شاملة تعني أن يتخطى الإنسان ما يفهمه أكثرية البشر بكلمة “إنساني”، الى البعد الحقيقي لهذه الكلمة.

فالإنسانية الحقيقية هي أن يكون الإنسان مدركاً، مفكراً، شاعراً، رحوماً، صادقاً، قنوعاً، غافراً، محباً للسلام، متواضعاً، ملتزماً، يتمتع بالمرؤة والشهامة، مترفعاً عن فعل الشر، غير مبرراً للخطأ، رافعاً للظلم، معيناً للضعيف، مساعداً للمحتاج، مجتهداً في العمل، خادماً للإيجابية، بعيداً عن النميمة والكلام الفارغ، محترماً لوقته ووقت الآخرين، غيوراً وليس حسوداً، غير مبذراً، كريم النفس واليد، شكوراً، مؤمناً لا مفسداً، أميناً، ساعياً للخير العام، جاهداً في أن يرضي الله، إله الخير والمحبة، وفوق هذا كله، والأهم، هو أن الإنسانية الحقيقية التي تحمل كل هذه الصفات (وهذا غيض من فيض) لا يمكن أن تترجم من منظار الفهم الشخصي لها، وإنما فقط من منظار نتيجتها الخيرة للنفس وللآخرين في ذات الوقت. كما ويبقى إضافةً أن إنسانية الإنسان بمعناها الحقيقي، لا توظف هذه الصفات لغاياتها الخاصة، فيلبسها الإنسان ويخلعها بحسب ما تقتضي الغاية. بالنتيجة، ما أحرص على قوله هنا، هو أن الإنسان يجب أن يلبس إنسانيته لبوساً، ما يجعلها – أي هذه الإنسانية – “أمراً مكتسباً” يجهد الإنسان ويجتهد في تحصيله، لا “حقاً مكتسباً” يصرفه الإنسان عند الولادة. 

شتان بين الإنسان وإنسانيته. فالإنسان يولد إنساناً ولكنه يكتسب إنسانيته، وهذه الإنسانية هي حالة كاملة وشاملة، وليست مجموعة من الصفات العامة المتفرقة. فكما أن ليست كل زهرة جميلة لديها رائحة جميلة حكماً، وليس كل أستاذ مدرسة هو معلم، وليس كل مدير هو قائد، وليس كل أب هو صارم، كذلك فإنه ليس كل إنسان يتمتع حكماً بالإنسانية بحد ذاته، وهذا هو مصدر استنتاجي للفرق بين الانسان وإنسانيته. فإننا بطبيعة الحال نرى الزهرة بشكل شامل ولا نميز بين شكلها من جهة ورائحتها من جهة أخرى. فبالنسبة إلينا، “الزهرة” فكرة كاملة  مؤلفة من شكل جميل، ولون جميل، ورائحة جميلة. والأمر ذاته بالنسبة للمعلم، والمدير، والأب. لكن ليس هذا هو الواقع في جميع الحالات، صحيح؟ إذن كذلك هو الأمر بالنسبة للإنسان، إذ لا يجب أن نتوقع بأن كل إنسان هو حامل حكماً للإنسانية بمعناها الشامل

ماذا إذن؟ فلننظر الى الإنسان في زمننا هذا، وربما على مر الأزمنة الغابرة. هل يمكن أن نطلق على كل إنسان صفة “إنسان”؟ إذا أردنا أن نلتزم بالتفسير اللغوي البحت للكلمة، لربما يمكننا أن نجيب ب”نعم”. ولكن إذا اقتنعنا بأنه هناك فرق بين الانسان وإنسانيته، فإن الجواب أصبح واضحاً. كل الحروب، والمآسي، والأوبئة، والبؤس، والقتل، والدمار الذي نراه اليوم في العالم، والذي رآه أجدادنا، والذي سيراه أولادنا يؤكد أن السواد الأعظم من البشر لديهم طبيعة “إنسان” وليس صفته الشاملة، وأن فقط حفنة صغيرة منهم استحقت إنسانيتها. فتاريخ البشرية لا يعدو كونه سلسلة شبه متواصلة من الحروب، والقتل، وحب السيطرة، والظلم، مع شبه فسحات من السلام. فكيف يمكن لهذا الواقع أن يكون لو كان كل إنسان يتمتع بصفات الإنسانية الشاملة التي عرضنا لبعض منها أعلاه؟ إذا فلنتوقف عن ظلم الإنسانية ولنتقبل عدم اقترانها بالانسان حكماً لأن التاريخ يشهد على عكس ذلك. أمر مؤلم، ولعله يبرر إرسال الله عز وجل كل هؤلاء الرسل والأنبياء، ولكنه لا يبرر كيف يمكن لكائن لديه التكوين، ولديه الإدراك، ولديه القدرة ليكون “إنساناً”، أن يختار بأن لا يكون.