Blog

الرئيس المشاغب

لعل أكثر ما يقض مضاجع السياسة الاميركية وصناع قرارها ولوبياتها اليوم هو ليس أبو عبد البغدادي ولا أبو علي  أون، بل هذا الرئيس المشاغب الذي تربع على عرش البيت الابيض على حين غرة وتحت انظار واندهاش الجميع. فها هو دونالد ترامب رجل الأعمال الفاحش الثراء، المتباهي والغير متحفظ، يدخل الى عالم السياسة الأميركية المعقّدة والمتشابكة، لدرجة انك لا تفهم حابلها من نابلها و لا كوعها من بوعها.

وبالرغم من تعقيدات هذه الحلبة التي تظهر وكأنها بحاجة الى عالِم ذرة لفَهمها، فإنه على ما يبدو حتى الآن، أن دونالد ترامب تمكن من دخولها من الباب الواسع، ليس فقط كرئيس لأقوى دولة في العالم (على ذمة الراوي)، وإنما كراع بقر خارج من سرداب الغرب الأميركي القديم، يكر ويفر، يقبل ويدبر، يروح ويجيء في شارع القرية الوحيد، ومن على حصانه يخيف هذا ويهدد ذاك، يطيح بهذا ويضرب ذاك، يسخر من هذا ويشمت بذاك، وهكذا حتى مغيب الشمس.

ومن هذه المشهدية الاستعراضية يتبادر الى اذهاننا ليس فقط أفلام كلينت ايستوود، بل نستذكر أيضاً تاريخ الولايات المتحدة الأميركية وسياستها العالمية، والتي تعشق من خلالها أن تلعب دور منقذ الشعوب الفقيرة والمقهورة، حاملةً شارة الشرطي الذي يقول للمواطنين كيف يأكلون وكيف يشربون، من أين يأتون والى أين يذهبون. وفي هذه المشهدية نرى الرئيس ترامب يلعب الدور ذاته، لكن هذه المرة على طريقته الخاصة، يسرح في سهول الأباتشي وأزقة الوادي الكبير، وبأسلوبٍ مختلف عن معظم – إن لم يكن كل رؤساء العصر الحديث – الذين سبقوه الى تبوء العرش بمن فيهم جورج بوش الابن.

فإذا راجعنا شريط الأحداث منذ انتخاب ترامب، نجد الكثير من المشاغبات الغير تقليدية بحدها الأدنى والتي لم نرى مثيلاً لها في العقود الماضية من السياسة الاميركية. وهذا ما يقلق هذه السياسة لأنها تعتمد بشكل أساسي على ثقافة مفادها أن الحكم استمرارية، وأن الرئيس يحكم ولكن دائماً ببركة الكونغرس وكبار الموظفين واللوبيات، وبشكل يتناسب مع التوجهات العالمية للمصالح الأميركية. ولكن من الظاهر أن هذه المعادلة التي كانت تتهادى بكل سلاسة الى درجة كبيرة قبل مجيء ترامب، لم تعد تعمل بشكل فعال بعد تبوئه منصب الرئيس، فمن استقالات بالجملة لموظفي البيت الأبيض الرئيسيين، الى التصاريح المتضاربة والمتناقضة للرئيس والتي تطلبت في الكثير من المرات تدخل أحد الناطقين لتوضيح الموقف أو للتخفيف من التخبط، الى فلتات الشوط التي يأتي بها ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت آخرها تلميحه من خلال تويتر الى ان الاسكوتلانديارد كانت على علم بحادثة القنبلة اليدوية الصنع التي انفجرت في مترو الانفاق في لندن، وغيرها من المواقف التي لولا أننا نتكلم عن رئيس دولة لكُنّا اعتقدنا انها ضرب من ضروب الكوميديا التراجيدية. فكلامه عن الاسلام، وبناءه لجدار المكسيك، وتقاعسه عن التعليق على الاحداث العنصرية التي حصلت في شارلوتسفيل في آب الفائت،  ومحاولته إلغاء أوباما كير، وتراجعه عن الاتفاق النووي مع إيران، وتناقد آرائه حول الحرب في سوريا وحول أزمة الدول الخليجية مع قطر، وغيرها من المواقف، كلها تشير الى حد كبير، لغياب الرؤية الموحدة للسياسة الاميركية في الداخل والخارج، وهو أمر لم نعتد عليه قبل مجيء الرئيس الجديد.

وفي هذا الاطار، ينعكس سلوك ترامب سلباً على موقع الولايات المتحدة نسبة للأحداث العالمية الحاضرة، وخاصة مع عودة القيصر الروسي الى الحلبة بقوة لا يستهان بها. وبالأكثر  فإن هذا السلوك يؤدي الى تغذية حالة الضياع التى أحدثها الرئيس داخلياً، حيث فقد جزءاً كبيراً من داعميه بحسب الاحصاءات الأخيرة، فضلاً عن العلاقة الفاترة والمتوترة في بعض الأحيان بينه وبين اللاعبين الآخرين في الداخل الأميركي وبالأخص لوبيات السلاح والمال والإعلام، و طبعاً بالإضافة الى علاقته الغير مستقرة حتى مع عدونا اللدود الاسرائيلي.

 ويبدو حتى الآن أنه لم يستطع أحد أن يكبح لجام زلات الرئيس المشاغب وردات فعله، التي يستخدم فيها التعابير الشائعة و الكلمات العامية وربما شبه النابية في بعض الأحيان، والبعيدة كلياً عن الحرفية اللغوية والمصطلحات الديبلوماسية التي عودنا عليها الرؤساء الذين سبقوه. وبالرغم من تعيين الجنرال جون كيلي مؤخراً كرئيس الموظفين في البيت الأبيض، والذي يعمل الآن جاهداً على ترتيب أمور القصر، وبالأخص السيطرة التامة على جدول مواعيد الرئيس، فيبدو أنه لم يتمكن هذا الرجل العسكري حتى الآن من قطع العلاقة بين الرئيس ترامب ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي من خلالها ما زال ترامب يشاغب ويستعرض قدراته التواصلية المأخوذة من عالم الاعمال المتعالي الذي لم يتمكن من الخروج منه حتى الآن.

أميركا أرادت التغيير وقد حصلت عليه. ويبدو أننا امام عصر جديد من زمن حكم أرباب المال والأعمال الذي آخر ما رأينا منه سابقاً هو جورج بوش الإبن، الذي قام بتنفيذ خطة تطوير أعمال رُسمت له ولم يرسمها. ولكن الفرق اليوم هو أن الرئيس ترامب ليس سياسياً بالفطرة ولا بالمهنة، وإنما هو رجل أعمال عالمي يحمل الفكر البراغماتي الأميركي بامتياز، و هو متمرس بهذا العمل. ولكن الأهم من هذا كله هو أن هذه الخبرة – أو قلة الخبرة السياسية – وضعته بموقع المشاغب حكماً وخاصةً أن شخصيته تساعده على هذا الامر. وفي إطار هذا التوصيف الفسيح تأتي وسائل التواصل الاجتماعي لتكون عاملاً أساسياً في إكسابه لقب “الرئيس المشاغب” بامتياز واستحقاق لم يسبقه اليه أحد من الرؤساء الأميركيين. والآن ما علينا إلا أن ننتظر ونرى الى أين نحن ذاهبون.